بذل جهداً كبيراً ليشرح لي كلمات الأغنية التي تنساب من الإذاعة. كان الراديو على رأس الغيط يبث الحماسيات بلا انقطاع، ونحن نعمل ونتكلم، وننظر إلى أشجار الكافور العملاقة على ترعة الإسماعيلية القريبة.
"أخي، جاوز الظالمون المدى، فحقَّ الجهادُ وحق الفدا".
قال لي أبي ما يعرفه ساعتها: هناك شعب في فلسطين اغتصب اليهود أرضه، وأسلموه للمنافي والتيه الأبدي ومخيمات اللاجئين. وأضاف بيقين: ما أخذوه بالقوة سوف نسترده بالقوة.
عشنا في تلك السنوات نشوة الانتصارات الصغيرة، اختطاف طائرات إسرائيلية، قتل الرياضيين في دورة ألعاب ميونيخ، وعمليات تسلل جريئة من الحدود. كنا في عصر الفدائيين ومنظمة فتح و"أصبح عندي الآن بندقية".
عرفنا أن كل شيء بالاتفاق حتى الغزو
دخلت القضية في نفق القرارات الدولية، وهرولت مصر إلى السلام العربي الأول مع إسرائيل. مصطلحات مجلس الأمن والمجتمع الدولي والسلام العادل الدائم كانت أفيون الشعوب في قضية اسمها فلسطين. "وطني لو شُغلتُ بالخُلد عنه، نازعتني لمجلس الأمن نفسي"، كما سخر أمل دنقل.
لكن المذابح استمرت، ونزف الدم الفلسطيني في لبنان وسوريا والأردن وتونس برصاص الأعداء والأشقاء.
قريباً من ساعة جامعة القاهرة، وفي ساحات كلية الآداب العريقة، أقمنا معرضاً لتأبين ضحايا صابرا وشاتيلا. على إيقاع "زهرة المدائن" فيروز و"أناديكم" أحمد قعبور كنا نمضي الأيام في الجدل والكلام، ونتفاءل. نشاهد صور الجثث المتفحمة وبيوت الصفيح المحترقة في المخيمات، ونتفاءل. سيطلع لهم جيل لا يخاف ولا يتصالح، ونتفاءل. إنهم يصنعون بمجازرهم وحشاً مارداً بلا قلب، المحارق من ورائه، والدبابة من أمامه، ونتفاءل.
لم نكن نعرف أن صابرا وشاتيلا ثمرة غزو تم بالتوافق، وأن بيروت كانت العاصمة العربية الأولى التي تسقط علناً في الحصار، فقد سبقتها كل العواصم إلى الحصار وذل الأسر.
في مطعم بحي المهندسين بالقاهرة جلس مبعوث إسرائيلي مع مسؤول فتح بالقاهرة سعيد كمال، وأبلغه بغزو لبنان قبل وقوعه، كما حكى محمد حسنين هيكل في كتابه "المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل". سأله كمال: وماذا عن رد فعل الحكومات والشعوب العربية؟ رد الرجل: لن يحدث شيء من الحكومات ولا من الشارع. ولا يحدث شيء من وقتها إلى يوم الدين.
وعرفنا مَن يأكل على مائدة الأعداء ليلاً
كل الحكومات العربية من أربعينيات القرن الماضي إلى ما شاء العلي القدير كانت في خدمة إسرائيل. حتى من حاربوها علناً أكلوا على موائدها في ظلام الحانات.
في غرف مدينة الطلبة في بين السرايات كانت شرائط الشاعر العراقي مظفر النواب ممنوعات نُهرّبها. نجهز الشاي ونشعل السجائر وينطلق صوته هادراً:
القدسُ عروسُ عروبتكم؟
فلماذا أدخلتم كل زُناة الليل إلى غرفتها، ووقفتم تسترقون السمع، وتنافختم شرفاً؟
وفي حفل مهيب بنقابة المحامين بالقاهرة غنينا مع الشيخ إمام: يا فلسطينية والغربة طالت كفاية.
لكن كل المذابح والمهانات التي لحقت بأهل فلسطين لم تكن "كفاية"، فأصبحت حكاية أنهم باعوا أرضهم للمستوطنين أم المهانات التي روّجناها أكثر من الأعداء.
وعرفنا أنها كانت حرفياً حرب تطهير عرقية ضد مدنيين
في السبعينيات، وبعد 3 عقود على اغتصاب الأرض وتهجير أهلها، وثّق مؤرخون إسرائيليون، وليسوا عرباً، تلك الكذبة الكبيرة التي روّجنا لها مع إسرائيل. ونقل الصحفي إريك رولو، وهو يهودي مصري فرنسي، بكتابه "في كواليس الشرق الأوسط" عن هذه الوثائق الإسرائيلية، أن العصابات اليهودية استخدمت الابتزاز والتهديد والإرهاب وتدمير البيوت، ومارست الطرد الجماعي والمصادرة والإعدام بلا محاكمة والمذابح لإجلاء أصحاب الأرض.
التقديرات الإسرائيلية الرسمية تتحدث عن 31 مذبحة على الأقل ارتكبها إرهاب الاستيطان قبيل إعلان الدولة اليهودية. أكثر من 80% من أهل فلسطين غادروا بيوتهم قسراً، أي نحو 800 ألف فلسطيني. ونجا 150 ألفاً معظمهم من المسيحيين والدروز، أصبحوا لاحقاً مواطنين من الدرجة الثانية، في بلد اسمه إسرائيل، كما يقول رولو. "خاضت العصابات اليهودية حرفياً حرب تطهير عرقية ضد مدنيين عزل. وبالتوازي كانت هناك مصادرة للغنائم، فاستولى الصندوق القومي اليهودي على 300 ألف هكتار من أراضي الراحلين، الذين مات كثيرون منهم على طريق المنفى عطشاً أو جوعاً".
بداية التسعينيات بالقاهرة كنا ننسخ شريط فيديو VHS، حصلنا عليه بصعوبة، لفيلم تسجيلي صوره التلفزيون المجري عن الانتفاضة الأولى. كنا نقاوم الحماس والدموع، والمذيع يسأل سيدة إسرائيلية عن رأيها في تكسير أيدي أطفال الحجارة، وترد مكررة: وهل هم بني آدمين؟ Are they human؟ والعالم مشكورا أدان جرائم إسرائيل وأصدر عشرات البيانات والقرارات ومسيرات التضامن. والعرب اعتبروها قضيتهم الأولى وتعهدوا بإزالة إسرائيل من الوجود، وبذلوا آلاف الخطب والمقالات والافتتاحيات. "وسرحان لا يقرأ الصحف العربية، لا يعرف المهرجانات والتوصيات، فكيف إذن جاءه الحزنُ، كيف تقيّأ؟". يسألنا محمود درويش، ولا جواب.
ثم ارتعدنا حين اكتشفنا أننا بهذا الحجم فقط
يقول النشيد الوطني الإسرائيلي: "أملنا لم يُصنع بعد، حلم ألف عام على أرضنا، أرض صهيون وأورشليم، فليرتعدْ من هو عدو لنا".
ارتعدنا..
أصدق أحياناً أنهم شعب الله المختار؛ لأن خصمهم كان على هذه الدرجة من التواطؤ والتهاون والهوان. وما مضى منذ تأسيس إسرائيل لم يكن تمهيداً لفتح القدس رسمياً على يد ترمب. ما مضى وما سيأتي هي حقيقتنا الوحيدة، وحجمنا على هذا الكوكب.
تابع التوك شو مساء الإثنين افتتاح سفارة ترمب في القدس، وشرح ما حدث بأنه "70 سنة كلام وجلسات وبيانات لمجلس الأمن، و70 سنة قرارات للأمم المتحدة". ما حدث لم يكن طريقاً ينتهي بفتح القدس رسمياً على يد ترمب في ذكرى اغتصاب الأرض، ما مضى وما سيأتي هو حقيقتنا الوحيدة، وحجمنا على هذا الكوكب.
كان النشيد الحماسي في الراديو قد بدأ يتوعد:
"طلعنا عليهم طلوع المَنونِ، فكانوا هباءً وكانوا سُدى".
ويرد محمود درويش مرة أخرى: "سُدى نحن".
سُدى وهباء وبلاغة فارغة. حروف سمينة نقصف بها العدو، ونعارض بها الأنظمة، فتنتظم أنفاسنا.. وننام.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.