لا أخفي عليكم أنني أتجنّب إلى حد كبير الحديث في الأمور السياسية لاعتبارات كثيرة لا مجال للحديث عنها هنا.
ولكنها لا تبتعد كثيراً عن واقع حرية التعبير الذي لم يصل إلى القاع لغاية الآن في بلادنا. ولا أخفي أيضاً أن ما دفعني للكتابة عن مسيرات العودة هو طلب الزميلة الكاتبة والصحفية الدكتورة دالية يوسف التعليق على مسيرات العودة ورأيي فيها.
ولكن يجب أيضاً الاعتراف بأن مسيرات العودة، وبصرف النظر عن كل ما يقال فيها، إلا أنها فرضت نفسها على الرأي العام الفلسطيني وربما العربي والعالمي. وفرضت نفسها كذلك على الأجندات السياسية الإسرائيلية والفلسطينية والعربية، وحتى الأميركية والأوروبية. وباتت جهات كثيرة مؤثرة في السياسة العالمية تبحث في كيفية وضع حد لهذه المسيرات، ومنع أي تصعيد يمكن أن يغير اتجاه السياسات المتفاعلة في المنطقة العربية، فضلاً عن وضع حد للتوتر والقلق الذي أخذ يهيمن على الحكومة الإسرائيلية وأجهزة الأمن لديها، ومنع تدهور الأمور إلى ما هو أسوأ.
راهن البعض على أن أعداد المتظاهرين في تراجع، ولكن المؤشرات لغاية الآن تقول إن المشاركة الجماهيرية في آخر جمعة كانت كبيرة، وربما فاقت في الأعداد الجُمَع السابقة. وراهن البعض الآخر على أن المشاركين سوف يخافون من إطلاق الرصاص عليهم من قِبَل جنود الاحتلال، إلا أنهم ازدادوا اندفاعاً نحو السياج، وابتكروا أساليب لافتة للنظر، ومربكة في الوقت نفسه لجنود الاحتلال، بل ولقادة الاحتلال. فمن سحب السياج، إلى الكوشوك، إلى الطائرات الورقية. حتى إن جيش الاحتلال أرسل طائرة لمواجهة الطائرات الورقية والعمل على منعها من الوصول إلى المرافق الإسرائيلية.
واعتبر آخرون أن "حماس" اختارت أخيراً المقاومة الشعبية التي دعت لها السلطة الوطنية الفلسطينية منذ سنوات طويلة. وكان لوضع صور مانديلا وغاندي ومارتن لوثر كينغ خلف المنصة التي تحدث عليها رئيس المكتب السياسي لحماس في غزة، إسماعيل هنية، دلالات واضحة على التوجه نحو المقاومة الشعبية بهدف التأثير على الرأي العام العالمي. إلا أن الثابت في هذا الأمر هو عدم صدور أي مؤشر عن حركة حماس لإسقاط خيار المقاومة المسلحة، وهو ما يدل على أن المقاومة الشعبية لا تعدو كونها أحد الخيارات الموجودة في جعبتها، وليست البديل عن خيار المقاومة.
لا شك أن الحروب الثلاث التي شنتها إسرائيل على غزة خلال العشر سنوات الماضية أثخنت الجراح إلى أبعد الحدود، وكان هذا هدفاً إسرائيلياً مدروساً، من شأنه أن يردع قوى المقاومة عن الخوض في مغامرات الحرب مع جيش يُعد من أقوى جيوش العالم من حيث التسليح والإعداد والتخطيط.
ولكن نتيجة الحروب الثلاث كانت أيضاً رادعة لإسرائيل التي اختبرت قوة المقاومة وقدرتها على الصمود والمواجهة، وصلابة المقاومين في وجه آلة الحرب الإسرائيلية، فضلاً عن إثارة حالة الخوف والفزع (وربما بعض الخسائر) داخل المدن الإسرائيلية نفسها. ولذلك، وجدنا أن أياً من الطرفين غير معنيّ في المواجهة الشاملة.
يبدو أن خيار "مسيرات العودة" التي اعتمدتها حماس، وبالطبع كل قوى المقاومة في غزة، تهدف إلى تجنّب الصدام المسلح مع الاحتلال، والدفع بالزخم الشعبي باتجاهه، خاصة أن الحصار المفروض على غزة كان له كبير الأثر في توجيه نقمة الشعب على الاحتلال الذي يتحمل أولاً وآخراً مسؤولية الوضع في غزة.
كما أن حالة التردّي العربي تجاه القضية الفلسطينية، والهرولة نحو التطبيع مع الاحتلال إرضاء لترمب، كان دافعاً آخر لكي يتم استنهاض الشعوب العربية، ولكي يتم فرض الحالة الفلسطينية على أجندات الساسة العرب والغرب أيضاً.
كلّ ذلك ربما يكون في كفّة، في حين أن قرار ترمب نقل السفارة الأميركية إلى القدس هو في كفّة أخرى، ربما ترجح، وتخلق تحدياً هائلاً في مسار القضية الفلسطينية.
فمن الواضح أن القوى السياسية الفلسطينية تدرك تماماً أن قرار ترمب لا يتعلق بمجرد نقل سفارة من تل أبيب إلى القدس، بل إنه يمثّل نقطة مركزية لتصفية القضية الفلسطينية، وفرض الاحتلال كأمر واقع في قلب الوطن العربي، وتنصيب إسرائيل لقيادة المنطقة العربية بالوكالة عن الولايات المتحدة، وإخضاع الدول العربية بالكامل لها.
وتدرك حماس من جهتها أن الرئيس الفلسطيني أبومازن يقف موقفاً مشرّفاً ومتماسكاً في وجه السياسة الأميركية، ويرفض بالقطع التنازل عن قضية القدس والاستسلام لسياسة ترمب.
ولكنها ربما تتخوف من الضغوط الهائلة التي يتعرض لها أبومازن، فضلاً عن تمسكه بخيار المفاوضات لحل القضية الفلسطينية. أضف إلى ذلك تعثّر موضوع المصالحة الفلسطينية التي تصل في كل مرة إلى طريق مسدود. ولذلك، سعت حماس إلى أخذ زمام المبادرة في مسيرات العودة التي مثّلت بعض ما في جعبة المقاومة من مفاجآت للاحتلال.
أما التسمية، فهي تمثّل مفارقة مهمة؛ حيث إن ترمب وإسرائيل تريان أن الخطوة القادمة هي تصفية القضية الفلسطينية، في حين يرى الشعب الفلسطيني أن المطلوب ليس مواجهة هذا المخطط فحسب، بل ورفع مستوى الطموح والأمل للعودة إلى الأرض المسلوبة، وهو الحلم الذي راود الفلسطيني طيلة سبعة عقود.
لقد شهدنا طيلة عقود مضت الكثير مما أبدعته العقول الفلسطينية في مواجهة الاحتلال، فهل بقي في الجعبة شيء؟ هذا هو التحدي في الأيام القادمة في مواجهة إصرار ترمب، ومعه كل المتواطئين، على تصفية القضية الفلسطينية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.