يرن هاتفي قاطعاً شجاري مع ميكي ماوس وبطوط. لم يكن ينقصني سوى هذا الصوت المزعج؛ لأفتح عينيّ، فعلى ما يبدو كان أحد أحلامي في مدينة البط.
عليّ الاستيقاظ الآن في مدينة أخرى، أرتدي ثيابي مسرعة لأستقل أول سيارة إلى عملي، أحب مدينتي في الصباح بشكل الشوارع والهدوء.
على ما يبدو أنني قد استيقظت في مدينة أخرى، ما كل هذا الزحام؟ وكأن كامل سكان المدينة قد قرروا النزول في الثامنة.. نعم إنه اليوم الأول في العام الدراسي الجديد.
كان عليّ أن أحتاط لهذا اليوم بأن أكون في الطريق مبكراً، ففي مثل هذه الأيام يكون السير أفضل وأسرع وسائل الانتقال.
زحام رهيب معه أصوات أبواق السيارات تخترق أذنيّ، وجوه أطفال جميلة بأعين ما زالت نائمة وزي مدرسي جديد.. أمام إحدى البنايات واحدة من الأمهات تقف لتلتقط صوراً لطفلها، فيما يبدو أنه أول أيامه على طريق العلم، يا له من حدث سعيد، بعينين يملؤهما النوم يقف الأب منتظراً انتهاء فقرة التصوير واقتناص اللحظة، بعد ساعة من الآن على الأرجح سوف تنزل صورة لطفل بريء على صفحات عالمنا الأزرق المعروف بالفيسبوك، وفوقها تعليق أشعر بالسعادة مع إشارة لصفحة الزوج ذي العينين الناعستين؛ لتنهال تعليقات المهنئين بهذا الإنجاز العظيم.
أكمل في طريقي ليقابلني أحد المحال الشهيرة للحوم في مدينتي، المعروف بنظافته وجودة منتجاته؛ لتلمح عيناي أحد العمال حاملاً لجزء من أحد العجول القادمة للتو فوق تروسيكل مكشوف للهواء الطلق (شيء قريب الشبه بالدراجة البخارية مضاف إليه صندوق خلفي ليستخدم في نقل أي شيء وكل شيء)، يحاول العامل حمله بإدخال رأسه تحت الجزء المراد حمله ليقوم برفعه برأسه؛ ليجول بذهني السؤال المهم: ماذا يحمل هذا الرأس؟ ليأتي السؤال الأهم بما أن هذا هو أنظف المحال ماذا عن الأخرى غير النظيفة؟
أبتسم وأنا أتذكر إحدى الفتيات الأجنبيات وهي تتساءل مستنكرة عن وضع المخبوزات مكشوفة أمام محلات الخبز؛ ليجيبها أحدهم ببديهية مطلقة: This is not a matter of concern here.ليس موضوع اهتمام هنا.
أستكمل طريقي لأصل أخيراً إلى عملي، ألقي التحية على من أقابلهم، بعضهم يرد التحية والبعض الآخر على ما يبدو لا يزال نائماً.
أصل إلى حيث مسؤولة الإمضاء لترمقني بنظرة قاسية يعقبها توجيه اللوم أنني دائماً متأخرة، ثم ترمقني بأخرى تعني أن أتركها الآن؛ لتتناول أطباقها الصباحية أعلى دفتر الإمضاء من الفول والفلافل والبيض والجبن بقطع الطماطم.
أبتسم ابتسامة أظنها بداخلي بلهاء بعض الشيء لأذهب صاغرة إلى الصيدلية؛ حيث زميلاتي العزيزات، ألقي عليهم التحية، فيما يبدو أنهم منهمكين في مناقشات حامية حول متطلبات العام الدراسي المسماة حديثاً بالسبلايرز منتقلين لمكونات وجبة الإفطار مارين بتمرين ما بعد اليوم الدراسي، وما يتطلبه من ملابس وأدوات.
إحداهن تحكي عن متطلبات التمرين والكابتن الذي ينصحها بمجموعة خاصة ليكون ابنها مميزاً، فهي تريده سباحاً عالمياً وتريده الأول وليس غير ذلك في كل شيء.. عند هذه النقطة أجدني أتدخل في الحوار رغماً عني؛ لأتساءل ماذا عن الثاني أو الثالث، أو من هم خارج الترتيب، لم نُخلَق ليكون جميعنا الأول، ومن دون ذلك يعتبر فاشلاً؛ لتجيبني الإجابة المصرية الشهيرة: "هو ناقص إيد ولا رِجل عن الأول"؛ ليعلو وجهي نظرة دهشة من فرط الانبهار، وفي محاولة أخيرة لإنقاذ هذا الطفل، أجيبها بأنه قد يكون ابنك مبدعاً في شيء لا يملكه هذا الأول، فنحن لسنا في ماراثون وحياتنا لا ينقصها كل هذا الكم من الأعباء والمعاناة من أجل اللاشيء.
يقطع حديثنا دخول إحدى الزميلات من فريق التمريض إلى غرفتنا تخبرنا أن لجنة مراقبة الجودة قادمة، وعلينا ارتداء البالطو الأبيض. لمن لا يعرف نظام الجودة في بلداننا العربية، هو نظام عالم رائع إلى أن أتى رغماً عنه إلينا فمنذ مجيئه تحول إلى مجموعة من الأشخاص تبحث عن كمية مهولة من الأوراق، في أبسط مثال الجودة تتطلب غسل اليدين، لا بد من وضع ورقة موثقة وصورة لطريقة ووسائل التنظيف المستخدمة لغسل الأيدي، فطالما وضع الورق تصير كل الأمور تعمل بشكل جيد، حتى وإن كانت إحداهم تقوم بإيصال المحاليل داخل أوردة مريض بعد انتهائها للتو من تناول بعض من أرغفة الفلافل والباذنجان.. المهم وجود سائل تنظيف الأيدي. لا يهم في ذلك أن قد تعلو أكوام القمامة خارج الصرح الطبي المهم وجود أوراق الجودة ليكون كل شيء على ما يرام.. مع كل هذا الكم من المتناقضات أتذكر حلمي لتتنامى رغبتي في الهروب إلى مدينة البط.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.