أنا ساهمتُ في إطلاق احتجاجات غزة ولستُ نادماً

عدد القراءات
782
عربي بوست
تم النشر: 2018/05/15 الساعة 10:58 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/05/15 الساعة 10:58 بتوقيت غرينتش
Palestinians run for cover from tear gas during clashes with Israeli security forces near the border between Israel and the Gaza Strip, east of Jabalia on May 14, 2018, as Palestinians protest over the inauguration of the US embassy following its controversial move to Jerusalem. / AFP PHOTO / MOHAMMED ABEDMOHAMMED ABED/AFP/Getty Images

يتمسك الفلسطينيون منذ زمنٍ بعيد بحلم أن تكون القدس عاصمتنا، أو على الأقل عاصمةً مشتركة في بلدٍ يُوفِّر حقوقاً متساوية للجميع. كان الشعور بالخيانة والضغط في غزة ملموساً. ولتصفية ذهني، ذهبتُ أنا وصديقي حسن في تمشيةٍ على طول الحدود، وهو أمرٌ كنا نفعله بين الفنية والأخرى.

قلتُ لحسن بينما كنتُ أنظر إلى الأشجار على الجانب الآخر من السياج الحدودي الشائك الذي يحبسنا: "هنالك تقع أرضنا. على بُعد بضعة كيلومترات فقط من هنا". مع ذلك، وبسبب ذلك السياج والجنود الذين يحرسونه، هذه الأرض بعيدةٌ جداً. معظم الأشخاص في مثل سِنّي لم يُسمَح لهم قط بمغادرة غزة؛ لأنَّ مصر تتحكم في المنفذ البري الجنوبي، فيما تُقيِّد إسرائيل الوصول إلى الشمال، إلى جانب أنَّها تمنعنا من استخدام بحرنا ومطارنا (أو على الأقل ما تبقى منه بعد ثلاث حروب).

هذا التفكير قاد إلى رغبةٍ عبَّرتُ عنها على موقع فيسبوك. وضربت على وتر حساس لدى الناس في غزة لدرجة أنَّها أطلقت حركة بلغت أوجها في الاحتجاجات التاريخية التي جرت على مدار الشهر الماضي أبريل/نيسان. وردَّت إسرائيل على نحوٍ مُفجِع بوحشيةٍ أكبر حتى مما توقعت، وأنا الذي عايشتُ ثلاثاً من حروبها. آخر التقديرات لعدد المحتجين القتلى هو 104، أكثر من 50 منهم قُتِلوا أمس الإثنين 14 مايو/أيار. وأُصيب آلاف آخرون. لكن أصواتنا كانت يجب أن تُسمَع، وقد سُمِعَت.

إنَّ كراهيتي للحدود عامة –بمعنى أنَّ كل الفلسطينيين يعانون منها- وشخصية جداً. وُلِد أجدادي وأجدادهم ونشأوا في مدينة الرملة وسط ما أصبح الآن إسرائيل. وأثناء جولات تمشيتي، كنتُ أتخيل أرض أجداد عائلتي.

لكنَّني أيضاً خَبِرتُ الأثر المُدمِّر للحدود على نحوٍ شخصيٍ أكثر. لقد وُلِدتُ في عام 1984، بعد عامين من انسحاب إسرائيل من شبه جزيرة سيناء وتقسيم مدينتي، رفح، بين غزة ومصر. هدَّمت مصر وإسرائيل قلب المدينة لإقامة منطقة عازلة، الأمر الذي قسَّم العائلات، ومن بينهم عائلتي، بأسلاك شائكة. عاشت عائلة أمي في الجانب المصري، وانتهى مطاف تقسيم رفح إلى الفصل بين والديّ. ومع أنَّ أمي كانت تعيش على مرمى حجر، استغرق الأمر 19 عاماً حتى أراها مجدداً.

في ذلك اليوم في ديسمبر/كانون الأول، بينما كنتُ أشاهد الطيور تُحلِّق فوق الحدود التي لا يمكنني عبورها، وجدتُ نفسي أفكر كم أنَّ الطيور والحيوانات أكثر ذكاءً من البشر؛ فهي تتآلف مع الطبيعة بدل أن تبني الجدران. في وقتٍ لاحق من ذلك اليوم، تساءلتُ على فيسبوك حول ما قد يحدث إن تصرَّف أحدهم كما لو كان طائراً وعَبَر ذلك السياج. وكتبتُ: "لماذا سيطلق الجنود الإسرائيليون النار عليه كما لو كان يرتكب جريمة؟". كل ما كنتُ أفكر به هو الوصول إلى الأشجار، والجلوس هناك، ثُمَّ العودة.

لم أستطع التخلي عن تلك الفكرة. وبعد شهر، كتبتُ منشوراً آخر. كتبتُ فيه: "شكراً إسرائيل؛ لأنكم فتحتم أعيننا. فلو كان الاحتلال فتح نقاط العبور، وسمح للناس بالعيش حياة طبيعية وخَلَق الوظائف للشباب، كان من الممكن أن ننتظر (على هذه الحال) لبضعة أجيال. إنَّنا مجبرون على الاختيار بين المواجهات وبين الحياة". وأنهيتُ المنشور بهاشتاغ "مسيرة العودة الكبرى".

تفاعل الشباب في غزة مع منشوري على الفور، فشاركوه وأضافوا أفكارهم. وبعد أسبوعٍ فقط، بدا كما لو أنَّ المئات يتحدثون عنه. أقمنا لجنةً شبابية، والتقينا مع الوكالات والمؤسسات المحلية. التقينا أيضاً مع الأطراف السياسية الوطنية؛ إذ كنا نرغب في منح كل قطاعات المجتمع في غزة الفرصة للمشاركة.

ما حدث منذ بدأت مسيرة العودة الكبرى كانت أمور أردتُها وتوقَّعتُها، وأمور أخرى لم أُرِدها أو أتوقعها. فلم يكن رد إسرائيل على مسيرتنا بالعنف المميت مفاجئاً. لكنَّني لم أتوقع هذا المستوى من الوحشية. ومن ناحية أخرى، تشجَّعتُ بالالتزام بالسلمية الذي ساد بين معظم أفراد شعبي.

قبل بضع سنوات، كان الناس هنا سيرفضون فكرة أنَّ التظاهرات السلمية قد تُحقِّق أي شيء. ففي النهاية، لم تُحقِّق أي صورة أخرى من صور المقاومة أي مكاسب ملموسة. ما يدهشني هو التحول الذي نراه في الطريقة التي نقاوم بها. كان نضالنا في الماضي نضالاً بين المقاتلين الفلسطينيين من جهة والقناصين والدبابات وطائرات F-16 الإسرائيلية من الجهة الأخرى. أمَّا الآن، فهو نضالٌ بين الاحتلال والمحتجين السلميين من الرجال والنساء والشيوخ والشباب.

تُذكِّر مسيرة العودة الكبرى العالم بأصل الصراع؛ أي اقتلاعنا من أرضنا وحيواتنا، بدءاً من العام 1948 واستمراراً منذ ذلك الحين. لقد اخترنا يوم 15 مايو/أيار ليكون ذروة احتجاجاتنا لأنَّه اليوم الذي يُحيي فيه الفلسطينيون ذكرى "النكبة"، التي نُسمِّيها عمليات الترحيل من ديارنا قبل 70 عاماً. وأيّاً ما كان الحل الذي سنتفاوض عليه في المستقبل للسماح لشعبينا بالعيش معاً في سلام ومساواة، لابد من الاعتراف بهذا الخطأ.

مع ذلك، ورغم رد القناصين الإسرائيليين، أواصل الالتزام بالسلمية، تماماً كما هو الحال بالنسبة لكل الآخرين الذين "يُنسِّقون" هذه المسيرة. وأنا أستخدم علامات التنصيص هنا؛ لأنَّ أي حركة حين تصبح بمثل هذا الحجم الكبير –تجذب المسيرات ما نُقدِّره بمائتي ألف شخص في أيام الجمعة- تصبح السيطرة عليها بصورة كاملة أمراً غير ممكن. ولم نشجع إحراق الأعلام الإسرائيلية وربط زجاجات المولوتوف بالطائرات الورقية. نحن نريد أن يكون التعايش السلمي المتسم بالمساواة هو رسالتنا.

حاولنا أيضاً إثناء المحتجين عن محاولة العبور إلى داخل إسرائيل. لكنَّنا لا نستطيع منعهم. إنَّه سلوك شعب سجين يتوق للحرية، التي تمثل أحد أقوى الدوافع في الطبيعة البشرية. وبالمثل، لن ينصرف الناس عن المشاركة في 15 مايو/أيار. إنَّنا عازمون على مواصلة نضالنا إلى أن تعترف إسرائيل بحقنا في العودة إلى ديارنا وأرضنا التي طُرِدنا منها.

اليأس يُغذِّي هذا الجيل. لن نعود إلى وجودنا غير الآدمي. وسنظل نطرق أبواب المنظمات الدولية وسجَّانينا الإسرائيليين إلى أن نرى خطواتٍ ملموسة لإنهار حصار غزة.

 هذا الموضوع مترجم عن صحيفة The New York Times الأميركية. للاطلاع على المادة الأصلية، اضغط هنا.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
أحمد أبو رتيمة
صحفي فلسطيني مساهم في تنظيم مسيرة العودة الكبرى
تحميل المزيد