رغم عدم الجزم، فإنّ هناك شبه إجماع على أنّ ذاك الفتح العظيم كان للأخوين "حسن" و"حسين"، شابّين من مدينة حمص اعتُقلا يافعين وقضيا الجزء الأكبر من سنوات اعتقالهما في سجن تدمر، كحال الكثير من المعتقلين منذ بداية الثمانينات. انتقلا فيما بعد إلى سجن صيدنايا في نهاية الثمانينات.. سنوات طويلة مرّت، ليس دون زيارات فقط، وإنّما دون أيّة أخبار عن عائلتهما.
في صيدنايا حيث مُمْكنات السجن لا تقبل المقارنة مع جحيم تدمر، احتكَّ الأخوان بسجناء لديهم زيارات شهريّة. وحدث في تلك الفترة أن تمكّن العديد من السجناء من تهريب أجهزة الراديو للسجن. قام الأخوان بتهريب رسالة بواسطة أحد الزملاء المُزارين ليُطمئنا عائلتهما أنّهما ما زالا حيَّين، وأنّهما موجودان في سجن صيدنايا. واختتما رسالتهما بأن طلبا من أمّهما الاتّصال ببرنامج "أبناؤنا في العالم" الذي كان يُبثّ من إذاعة دمشق، وأن تخبرهما خلال اتّصالها عن أحوال العائلة.
كانت الخدمة التي يقدّمها هذا البرنامج أنّه يتيح للجمهور الاتصال المباشر أو تسجيل رسائل صوتيّة موجّهة للأبناء في بلاد الاغتراب. رسائل تنطوي على بعض الأخبار التي تطمئن المسافر عن عائلته.
في كلّ يوم سبت وفي تمام الساعة العاشرة والنصف، كان الأخوان حسن وحسين سيديران إبرة المذياع على إذاعة دمشق؛ حيث كان من النادر أن يستمع السجناء لإذاعتهم الوطنيّة، وسينتظران أن تحدث المعجزة المُنتظرة، وبعد شهور طويلة وفي ليلة سبتٍ ما، كان أن حدثت.
ستسأل المذيعة السيّدة أم حسن لمن الرسالة؟ وسوف تجيب الأمّ بأنّها لولديها حسن وحسين المقيمين في "رومانيا" والمغادرين منذ العام الماضي للدراسة. وليستمع بعدها روّاد إذاعة دمشق إلى أغرب رسالة في تاريخ البرنامج: "مرحباً يا ماما.. مرحباً يا حبيباتي.. أنا اشتقتلكن يا ماما"، هكذا افتتحت الأمّ رسالتها ولتجهش مباشرة في بكاءٍ غير مفهوم.
ستحاول المذيعة التخفيف عنها وتطلب منها أن تكمل.. بصعوبةٍ تابعت الأمّ رسالتها التي انطوت على تناقضات لم تكن مفهومة لا للمذيعة ولا لأيّ من المستمعين (طبعاً باستثناء مستمعي سجن صيدنايا).
لم يكن مفهوماً، على سبيل المثال، أن تخبر ولديها بعد عام واحد (كما ادّعت) على غيابهما، أنّ أختهما قد تزوّجت وصار لديها ثلاثة أطفال أسماؤهم فلان وفلان وفلان. وأنّ أخاهما الأصغر قد تخرّج في الجامعة. ولتتابع بسرد أخبارٍ كانت جميعها ستنطوي على ذات المفارقة بما يخصّ الزمن.
انتهت رسالة الأمّ بعد أن أنهكت الشابّين من البكاء حزناً وسعادة وشوقاً.
انتهت الرسالة، لتكون فاتحةً عصر جديد لسجناءٍ بقوا عقداً كاملاً مقطوعين عن الحياة والعالم. انتهت الرسالة لتكون انعطافةً في تاريخ البرنامج أيضاً، حيث لم تمضِ عدّة أسابيع حتّى احتلّ أهالي سجناء صيدنايا كامل وقت البرنامج.
في تلك الأيّام الطويلة والباردة، أصبحت الساعة العاشرة والنصف من ليلة كلّ سبت ساعةً لصمتٍ مقدّس في معظم أرجاء السجن؛ حيث كان المنتظرون المترقّبون يبتهلون بكامل أرواحهم أن يكون الاتصال التالي من نصيبهم.
وممّا ميّز تلك اللحظات أنّها اتّسمت بسرياليّة من نوع نادر، حيث يختلط فيها الدمع مع أصوات الضحكات العالية التي تسبّبها التناقضات التي لم تكن تخلو منها أيّة مكالمة.
في تلك الأيّام باتت ليلة السبت تشكّل المحطّة الأهمّ في حياة السجن ومعظم السجناء.كان السجناء يتساءلون فيما بينهم إن كان هناك أحد ما يعرف بلداً آخر، احتاجت فيه الأمّ إلى كلّ هذا الكَمّ من الاحتيال لإنجاز واحدة من أبسط بديهيّات الحياة. فقط أن تقول لطفلها: "اشتقتلّك يا حبيبي يا ماما". طفلها الذي سيق إلى هذا الجحيم قبل أكثر من عشرة أعوام. ولدها الذي اختطف منها حين لم يكن قد بلغ السادسة عشرة بعد. أن تقول له، وهي ليست متأكّدة أنّه سوف يسمعها: "اشتقتلّك يا حبيبي يا ماما".
هذه الجملة بكلماتها الثلاث كانت الأكثر تكراراً في البرنامج. هذه الجملة البسيطة التي كانت ستدعو في حياةٍ طبيعيةٍ (أي غير سوريةٍ) للابتسام الودود، وربّما إلى ضمّةٍ عابرة. هذه الجملة التي قد تقلنها الأمّهات لغواً، في الكثير من الحالات. هذه الجملة ذاتها، كانت كفيلة بأن تبكي مئات السجناء في ليلة السبت، ومع بعض المبالغة، كان بإمكانها أن تُبكي حتّى جدران السجن.
وللموضوعيّة، ينبغي القول إنّ المذيعة كانت تستمع بصبرٍ غير قابل للتفسير، وحتّى دون أيّ محاولة للإحراج، لأمّهاتٍ لم تكن أيّة واحدة منهنّ سعيدة، كعادة الأمّهات، بدراسة ابنها الجامعيّة، حيث كنّ يبكين على الدوام بسبب ذهاب أبنائهنّ إلى "الجامعة". وينقلن لهم أخباراً متناقضة ولا تستقيم مع التصاريف الطبيعيّة للحياة. أخبار من النوع الذي لا يعترف برصانة المرور الطبيعي للزمن.
كان السجناء المُزارون سيشعرون بالإحراج الشديد، إن فعلَتها إحداهنَّ ممّن يستطعن الزيارة، وقامت بالاتصال بالبرنامج كي تخبر زوجها كم تحبّه. فقد كان هذا ترفاً معيباً وغير جائز، ويمكن في حالات التطرّف بإطلاق الأحكام، اعتباره جريمةَ سرقةٍ انطوت على حرمان أمٍّ من حقّها بأن تقول لابنها الغائب إنّها ما زالت على قيد الحياة، وإنّها ما زالت تنتظر عودته على باب البيت.
وكان شديد القسوة على السادة المستمعين السجناء أن تصل رسالة من أمّ ما زال ابنها في سجن تدمر، وهي تسترسل بأشواقها دون أن تعلم أنّ ابنها لن يستمع إلى أيّ من أخبارها. أمّا الكارثة الكبرى التي كانت تسبّب نزيف دموع السجناء فهي اتصال أمّ تتحدّث إلى ولدها وتقصّ عليه أخبار إخوته، وهي لا تدري أنّه قد مضت سنوات على إعدامه في السجن، أو أنّه قضى في مجزرة تدمر الشهيرة.
في صباح كلّ أحد، وعند فتح أبواب المهاجع، سوف تنهال التهاني لمن جاءتهم الرسائل الصوتيّة ليلة الأمس. أمّا الباقون، ممن أرَّقهم طول الانتظار، فلم يكن أمامهم سوى أن يؤجّلوا أحلامهم، بالصبر المعهود للسجناء، حتّى ليلة السبت القادم.
حدث كلّ هذا في مطلع تسعينات القرن الماضي، ورغم كلّ ما تنطوي عليه تلك الحكايات من مأساة ما زالت مستمرّة حتّى اليوم، إلّا أّنها ستبدو كحكايات مُحتملة، بالمقارنة مع عشرات آلاف حالات الاختفاء القسريّ التي تشهدها سوريا حاليّاً، خاصّة بعد ظهور صور الآلاف من الشهداء تحت التعذيب، وبدء تراجيديا السوريّين المريرة في رحلة بحثهم عن ملامح أبنائهم بين تلك الصور.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.