في أثناء بحثي عن كتاب للكاتب الإنكليزي دان براون، وقع نظري على ذلك الكتاب الموجود هناك على أحد تلك الأرفف، لم يكن رواية ولكنه سيرة ذاتية. مع عشقي لكل كتاب يحمل عنوان السيرة الذاتية، قررت أن اقترب لكي أراه إلى أي الأشخاص تنتمي تلك السيرة الذاتية، فوجدتها للأديب العالمي نجيب محفوظ، وقد كنت ذاهبة بالفعل ولديَّ شغف أيضاً بأن يقع في يديَّ أي عمل من أعمال نجيب محفوظ.
واستمراراً لعادتي التي اتَّبعها قبل قراءتي أي عمل أدبي بأن أقرأ السيرة الذاتية أو أجمع معلومات عن طريقة وأسلوب ونبذات عن حياة صاحب الكتاب، عُدت بذلك الكتاب مُستغنيةً به عن كتاب لدان براون هذه المرة.
ولكن ذلك الكتاب على الرغم من أنه سيرة ذاتية، فإن الأديب العالمي لم يكن هو من سطَّر كلماته؛ بل كان الكاتب حسين عيد هو كاتبه، وكان الكتاب مُصطحباً بتوقيع نجيب محفوظ مُرافقاً لكلمة شُكر وعرفان للكاتب حسين عيد؛ لِما بذله من جُهد خارق في كتابة تلك السيرة الذاتية والأدبية لشخص نجيب محفوظ. ومع كل صفحة كُنت أقرأها من ذلك الكتاب، كُنت ألمس ذلك الجهد الذي بذله حسين عيد ليخرج بأسلوب جديد يسطِّر به نبذة عن ذلك الأديب النجيب، وكنت أندهش من مدى روعة أسلوب الكاتب حسين عيد ودقة تحليله لكل رواية من روايات نجيب محفوظ، ولم يكتفِ بتحليل الروايات؛ بل قام أيضاً بتحليل حوارات الأديب العالمي المنشورة في الصُحف والمجلات وأيضاً كل عمل فني قام به نجيب محفوظ.
وقارئ ذلك الكتاب سيكتشف مدى افتتان حسين عيد بعالَم نجيب محفوظ، وكان ذلك هو سبب عدم رغبة الكاتب في كتابة سيرة ذاتية تقليدية كما كتبها الكثير عن نجيب محفوظ، فقرر من خلال دراسته المُتأنية لجميع الأعمال الفنية وأيضاً للحوارات المنشورة، أن يُخرِج لنا شخصية ذلك النجيب التي تتوارى في ظل أعماله.
وبالفعل، كما قال حسين عيد عن كتابه ذلك بعد أن أصدرته الدار المصرية اللبنانية وإقبال القُراء عليه إقبالاً شديداً، فإنه "ساهم بقدرٍ ملحوظ في إضاءة مساحات غامضة من حياة وأدب كاتبنا الكبير، وخاصةً أن ذلك الكتاب كان بمثابة هدية يُقدِّمُها الكاتب حسين عيد للأديب العالمي نجيب محفوظ، خصوصاً بعد أن عافاه الله من ذلك الاعتداء الذي وقع عليه في عام 1994، حينما قام أحد الشباب بمحاولة طعنه بمطواة في رقبته، سبَّبت له عجزاً منعه فترةً من الكتابة، ولكن مع روح الإصرار والعزيمة التي عهدناها في شخصية نجيب محفوظ التي وصَّلها لنا الكاتب حسين عيد، استطاع نجيب محفوظ أن يقاوم ذلك العجز وتحدى نفسه وكتب 146 حُلماً في كتاب صدر عن دار الشروق في عام 2005، كما ورد في السيرة الذاتية.
ولكن، ما هي الكتابة من نقطة الصفر التي أوردتُها كعنوان لمقالي هذا ، فالأديب نجيب محفوظ كمِثل أبناء شعبه في نكسة يونيو/حزيران 1967، كانت النفسية الشعبية تكاد تساوي صفر، فالجميع أصابه الاكتئاب، والمشاعر الهائجة والعيون الدامعة والمقهورة والآهات في كل البيوت مستمرة، ودائماً الكاتب أو الفنان يسير وراء إحساسه وعاطفته، ونجيب محفوظ هو ابن بيئته والقريب دائماً من الشارع، ولم يستطع عقله وقلمه أن ينفصل عن تلك المشاعر الهائجة، يريد أن يكتُب ويريد أن يُخرِج كل ما في جعبته من صراخ وآهات وألم، ولكنّ القلم والورقة لم يستطيعا أن يحملا كل ذلك، فتهرب الكلمات ولا يستطيع أن يجمعها ليصنع منها عملاً فنياً، فاستمرت تلك الحالة تنتاب نجيب محفوظ، تلك الرغبة الشديدة في الكتابة ولكن الكلمات سرعان ما تهرب منه.
وقد صوَّر نجيب محفوظ ذلك التوقف بأنه توقُّف سببه "الشلل النفسي"، الذي نتج عن تلك الصدمة الرهيبة التي أصابت الشعب بأثره آنذاك، فهي أزمة عدم استيعاب.
وإليكم ما قاله نجيب محفوظ عن تلك الفترة في مجلة "المُصور" في عدد 21 أكتوبر/تشرين الأول لسنة 1988:
"نحن حتى الآن لم نعرف كل شيء عن 5 يونيو/حزيران 1967، وذات مرة صوَّرتُ حالي في قصة قصيرة من خلال شخص في حلوان جالس بالمحطة غفل، وكان يحب فتاة يراها كل يوم في المترو، وصحا من غفلته على زيطة، ووجد فتاته مقتولةً، لأي سبب قُتِلَت لا يعرف.. هذا كان حالُنا في 1967".
ولكي يتغلَّب نجيب محفوظ على تلك الحالة، ابتدع له نظاماً جديداً يُسمى "الكتابة من الصفر"، وهذا النوع من الكتابة لا يكون في ذهنه أكثر من الرغبة في الكتابة؛ فلا موضوع ولا مضمون ولا حدث ولا شخصية في هذه الحالة، فإن الكلمة الأولى هي التي ستؤدي إلى الثانية.. فإذا بدأ بجملة "خرج فلان من بيته"، فالله وحده أعلم بما يأتي بعدها.
بداية نجيب محفوظ مع القراءة
وفي هذا يقول نجيب محفوظ بأحد لقاءاته: "بدأتُ قراءاتي بالروايات البوليسية.. (سنكلير)، (جونسون)، (ميلتون توب)، وغيرها من الروايات التي كان يترجمها حافظ نجيب بتصرف، وكانت منتشرة هي وأمثالها في أيام طفولتنا، ولم تكن هناك بالطبع كتب خاصة بالأطفال على أيامنا. لذلك كانت هذه الروايات هي كل قراءاتي الأولى في أواخر المرحلة الابتدائية وأوائل الثانوي".
وكانت أول رواية يقرأها نجيب محفوظ عن طريق استعارتها من زميل له في المدرسة الابتدائية، فأعجبته وعرف أماكن شرائها فاعتادها.
تحدي وإصرار نجيب محفوظ
لقد أشرت إلى أن نجيب محفوظ استطاع أن يتغلب على توقُّفه عن الكتابة عقب النكسة عن طريق ابتكاره "الكتابة من الصفر"، ولكن نحن الآن أمام إصابة وعجز أصاب نجيب محفوظ فكيف يتغلب عليها؟! وهو الآن مُنقطع عن العالم الخارجي وليس لديه مادة يبني عليها أعماله الفنية، وما زال عشقه للكتابة يكمُن بداخله.
لكي يتغلب نجيب محفوظ على ذلك، جعل مادته هي أحلامه، فكانت تتمثل له في مُخيلته كعمل فني وركَن إلى الإملاء، أن يُملي أعماله لأحد ليكتب عنه.
وفي ذلك يقول نجيب محفوظ بأحد لقاءاته: "كانت كتابتي تسمح لي بأن أُغيِّر وأُبدِّل على الورق، فأُعيد كتابتها مرات إلى أن أصل إلى الصياغة النهائية لها، لكن يدي تعبت فبدأت فقط أملي لأول مرة في حياتي. وقد كنت في الماضي أتعجب كيف يستطيع د. طه حسين مثلاً إملاء رواياته؛ لأن عملية الكتابة كانت بالنسبة لي جزءاً لا يتجزأ من العملية الإبداعية ذاتها، وكان القلم هو إصبعي السادسة، والذي من دونه لا أستطيع أن أكتب، لكن الإنسان يتأقلم مع الواقع، وها أنا أجد نفسي مضطراً بعد هذه السنوات إلى الإملاء، أي إنني أدركت الحدود التي لم تعُد تسمح لي بالكتابة بيدي فقبلتها، وتحولت إلى الإملاء من أجل الاستمرار في الكتابة".
فنجيب محفوظ هو كاتب من عمالقة الأدب واللغة، استطاع بأعماله أن يصل إلى العالمية، فحياته وخياله وطريقة كتابته تستحق المعرفة، ونحن نستحق الاستفادة منها، ولا يوجد كاتب استطاع أن يخترق جوانب مختفية من شخصية نجيب محفوظ في أعماله كما قام بها الكاتب والناقد الأدبي حسين عيد.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.