ظهر باسم وهمي على الإنترنت واخترع البيتكوين.. كيف نشأت العملات الرقمية على يد شخص مجهول؟

عدد القراءات
2,319
تم النشر: 2018/05/12 الساعة 07:20 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/05/12 الساعة 09:37 بتوقيت غرينتش

هناك فترات مفصلية تمر بها البشرية تتغير بها نظرتنا إلى مفاهيـم سابقة كنا نتبناها في تعاملنا اليومي، ضوابط وأنظمة كانت تحدد آلية المعاملات التي نقوم بها مع أطراف عديدة من مؤسسات، بنوك، مستشفيات وأماكن تقديم الخدمات أو توفير البضائع.

ويحدث أن تتغير هذه الآلية بسبب تطور كبير وطفرة في التقنية لتحدث تغييراً مفاجئاً، جذرياً أو تدريجياً على مر السنين وتسقط بها مؤسسات تقليدية تُلغى أدوارها لتحل مكانها مؤسسات جديدة وبروتوكولات حديثة.

اختراعات غيرت البشرية واتسمت بها الحقبة المعاصرة لها، فالطابعة الورقية في القرن الرابع عشر أحدثت طفرة في مجال المعرفة، وأثمرت في نشر مختلف العلوم بمجهود ووقت أقل، وقلصت الفجوة بين طلب العلم والمعرفة وتحصيله.

اختراع المحرك الكهربائي وما ترتب عليه من قيام ثورة صناعية في القرن الثامن عشر أحدث تغييراً كبيراً في الإنتاج والتصدير.

أنهضت هذه الطفرة في الإنتاج شعوباً وأمماً، وأزالت حضارات أخرى، كما أنها ألغت عقوداً من الاعتماد الكامل على القوى البشرية في توليد الطاقة، وتسريع عملية الإنتاج.

وفي تسعينات القرن الماضي تغير العالم مع إطلاق الإنترنت وخلق عالم افتراضي قصر المسافة بين البشر، وأصبحت الكرة الأرضية قرية صغيرة يتم التواصل عبر مناطقها بكل سهولة.

تغيرت الكثير من السلوكيات في إجراء المعاملات، عمليات البيع والشراء لم تعد ملزمة في إطار تقليدي من محل ذي بناء فعلي بين جدران ومحلات ومخازن، بل أصبح بإمكاننا إجراء عمليات البيع والشراء إلكترونياً، بما فيها من سلع يومية استهلاكية.

الكثير من المعاملات المصرفية تجرى إلكترونياً، الإجراءات الحكومية، قطاع الترفيه من الأفلام والموسيقى، حتى التعليم أصبح متاحاً عن طريق جهاز صغير في حجم راحة اليد، ناهيك عن الحياة الاجتماعية وبفضل وسائل التواصل الاجتماعي نتشارك حياتنا اليومية مع الملايين عبر كل مناطق العالم.

واليوم تقوم التقنية التالية من الجيل القادم للإنترنت، والتي يتوقع الكثير بأنها ستغير ملامح العالم كما لم تكن من قبل لتزول أنظمة تاريخية، وتأتي بأخرى جديدة، هي ثورة blockchain والتي ستغير مفاهيم اقتصادية مبنية عليها مؤسسات عريقة عمرت لقرون.

العملة الرقمية blockchain

في عام 2008 وقت حدوث الأزمة المالية وانهيار العديد من المؤسسات والمصارف المالية والاستثمارية، ظهر شخص عرف باسم وهمي ساتوشي ناكاموتو في أوساط الإنترنت، ظل مجهولاً لأعوام طويلة ، بورقة عمل يشرح فيها عن عملة رقمية مشفرة cryptocurrency   سماه bitcoin كبديل للعملة الورقية الحالية ووضع بروتوكول التعامل في أبحاثه.

وكأي سلعة جديدة في عالم المال والأسواق، تم التعامل مع العملة الرقمية bitcoin من قبل المتضاربين والمتداولين في الأسواق المالية تماماً كالأسهم والسندات والمعادن من ذهب وفضة أو خام يتم التداول بها والمضاربة عليها لكسب الربح من الفرق بين قيمة البيع والشراء.

ولأنها في الأساس ليست عملة ورقية، تحوي كل عملة رقمية على رقم خاص وتشفير معين، تدعمها تقنية تسمى blockchain والتي بمفهوم مبسط عبارة عن جدول الحسابات الخاص لكل العمليات المحاسبية من تداول للعملة الرقمية، وما يترتب عليه من تغيير في القيمة والتحويل من شخص إلى آخر منذ أول تعامل بها، وتستمر في تسجيل كل معاملة قائمة، وكل علمية تدوير للعملة، وتحتفظ بهذه المعلومات التاريخية ولا تزول من جدول الحسابات.

ومنذ حوالي العامين بدأت العملة الرقمية تأخذ مساحة كبيرة من الاهتمام، خاصة في التداول. كثير من المحللين وضعوا الأصبع على العملة الرقمية وجعلوها في مصاف المتغيرات الكبيرة، متوقعين أن يكون لها دور كبير في إحداث الطفرة القادمة.

لكن في الأساس ما جعل العملة الرقمية cryptocurrency  حديث الساعة وميزها عن سائر التقنيات الأخرى هو المبدأ الذي تم إحداثه وهو نظرية إلغاء الطرف الوسيط الذي يلغي الدور المركزي في المعاملات، أي أن العملة الرقمية تتسم باللامركزية في التعامل عكس العملة النقدية التقليدية التي تتحكم المصارف المركزية الحكومية في إصدارها وكمية النقد المتاحة في سوق العملات، وهذا بفضل تقنية blockchain.

التقنية التي بنيت عليها العملة الرقمية والتي تسمى blockchain هي التي يجب وضعها تحت المجهر، وهي التي أصبحت محط أنظار المؤسسات والمستثمرين.

بعيداً عن الولوج إلى التقنية الدقيقة في برمجة العملة الرقمية  cryptocurency والتي تتطلب معرفة مسبقة في علم التشفير وبروتوكولات شبكات التواصل في الإنترنت، يكفي أن نعرف أن الأخير عبارة عن سلسلة مركبة ببعضها البعض تعطي تاريخاً دقيقاً غير قابل للتغيير عن كل معاملة تتم في العالم الافتراضي للأصول المتداولة، سواء كانت عملة رقمية أو أصولاً أخرى.  

وكأن blockchain عبارة عن شرائح من الحمض النووي ذي تشفير فريد من نوعه يحوي كل المعلومات عن جينات الإنسان، ومتصلة ببعضها كحلقات مكونة سلسلة متواصلة وبفضل البرمجة العالية والتشفير المعقد يجعل من الصعب جداً تفكيك هذه الشفرة، ففي كل حلقة من السلسلة شفرة مختلفة عن الحلقة التي تليها، وكالحمض النووي هذا ما يجعل تقنية blockchain آمنة، وتضمن الخصوصية لكل المستخدمين.

فلا يستطيع أحد أن يغيره، وكأنه تاريخ مسجل غير قابل للشطب أو العبث به، وهنا يكمن جمال وجاذبية هذه التقنية.

وهذه المزايا الفريدة تضمن البقاء والاستمرارية، كما أنها تلغي الدور المركزي أو دور الوسيط، بالتالي تجعل من الأصول، سواء العملة الرقمية cryptocurrency أو غيرها مفضلة للتعامل لدى الكثير.  

فعند التعامل مع أي طرف تتم المعاملات في سرية تامة، وتكون البيانات آمنة من الاختراق. كما أنها تلغي الكثير من البيروقراطية المصاحبة للعمليات النقدية التي كانت تتم بالطرق التقليدية، وبالتالي تجعلها أقل تكلفة.

وما يجعل blockchain محط اهتمام ودراسة العديد من المؤسسات والجامعات ومراجعة الحكومات في الفترة الحالية هو إمكانية تطبيق هذه التقنية في مجالات مختلفة من حياتنا اليومية.

أضف إلى هذا أن blockchain أحدث طفرة كبيرة في إمكانية تبادل الأصول من مجموعات إلى مجموعات أو ما يسمى peer to peer في عالم الإنترنت بخصوصية ودون اختراق، وهذه كانت من أصعب المعضلات التي واجهت المبرمجين في السابق.

تطبيقات blockchain

التطبيقات التي يمكن استخدام blockchian كثيرة رغم أنها ما زالت في بداياتها، فعند استخدام bitcoin، أصبح بالإمكان تحويل العملة إلى مختلف مناطق العالم بتكلفة أقل ووقت أقصر من مثيلاتها من شركات الصرافة، والتي تأخذ أكثر من يوم للتحويل، وبتكلفة تصل 10% إلى 20% في كل عملية تحويل. بفضل bitcoin يتم التحويل في الوقت ذاته، وبنسبة تكلفة بين 2% و5%.

والعملة الرقمية  cryptocurrency ما هي إلا تطبيق واحد من التطبيقات الكثيرة التي يمكن الاستفادة منها في جعل الحياة أسهل والمعاملات اليومية أكثر خصوصية وأماناً من الاختراق.

وبالإمكان تطبيق نظام blockchain في مجالات أخرى متعلقة بأصول غير العملة الرقمية مثل تسجيل ملكية الأراضي والعقارات وكتابة العقود عن طريق استخدام تقنية blockchain، وعند إتمام صفقة جديدة وتغيير الملكية تخزن المعلومات في حلقة جديدة مشفرة، علماً بأن المعلومات السابقة موجودة وغير قابلة للتغيير أو العبث مما يعطي تاريخاً دقيقاً لكل ما يتعلق بالملكية. مصرف غولدمان ساكس بدأ في استخدام هذه التقنية لتسجيل ملكية الأراضي.

شركة كوداك للتصوير في حركة مفاجئة جداً وواعدة في نفس الوقت أعلنت أنها بصدد استخدام تقنية blockchain لتشفير الصور وحفظ حقوقها من الاستخدام تجارياً وبدون معرفة مسبقة لصاحبها.

وهذه الاستراتيجية السباقة التي أعلنت عنها كوداك قد تكون مدخل الشركة إلى مجال التصوير الرقمي من جديد وفي حلة جديدة بعد تعثرها الكبير في السنوات الماضية، خاصة أن الشركة ستعمل مع مجموعة من المبرمجين والمصممين في هذا المجال لتطوير التقنية.

وكاستخدام آخر blockchain في مجال الموسيقى بإمكان التقنية أن تضمن حقوق الموسيقيين وعدم استغلال القطع الموسيقية من دون علم صاحبه أو دفع الاستحقاق عند سماع مقطوعاته. أيضاً تطبيقها في قطاع التعليم، أو تسجيل براءة الاختراعات، فالأبواب كثيرة تنتظر أن تفتح باستخدام هذه التقنية.

موقف الحكومات من العملة الرقمية blockchain

رغم الانتقادات الكثيرة لأي شكل من أشكال العملة الرقمية ولتقنية blockchain، وأن الحكومات لن تقبل أن تتخلى عن دورها المركزي في العمليات النقدية أو أن تهمش في مجتمعاتها، أو تفقد البنوك والمصارف دورها السائد في هذه الدائرة المالية، فإنه من الصعب الوقوف في وجه هذا التغيير القادم.

كما حدث مع الإنترنت عند بداية ظهوره شكك الكثير في إمكانية استبدال الجرائد الورقية بأخرى إلكترونية، والآن انتقلت معظم مواقع الجرائد الإخبارية إلى العالم الإلكتروني وأوقفت الطباعة.

فنحن دائماً نستبدل الطرق القديمة التي كنا نعتاد التعامل بها سابقاً لنتبنى طرقاً جديدة نتيجة التغيير والتطور مع مرور الوقت.

ويبدو أنه ليس كل الحكومات مناهضة لهذا التغيير القادم، فحكومة دبي، الإمارة الدائمة السعي للاستفادة من التقنيات الحديثة ومواكبة التغيير المستمر، تعمل دبي حالياً على دراسة كيفية الاستفادة من blockchain  للتقليل من النفقات الناتجة من الإجراءات الورقية بحوالي 1.5$ مليار سنوياً ورفع كفاءة أداء الحكومة.

وقد أعلنت دبي عزمها استخدام هذه التقنية في عام 2020 في مجالات مختلفة، فالإمارة وفي تحرك استراتيجي تسعى إلى أن تكون مركز استقطاب في الشرق الأوسط لهذه التقنية وجذبها شركات البرامج والتصميم لدراسة تطبيق هذه التقنية في قطاعات مختلفة في المستقبل، وتعزيز دورها في المنطقة.

الدور المستقبلي

في وقتنا الحالي يتم التداول بمعاملات تجارية تقدر سنوياً بحوالي 10 تريليونات دولار بين المليارات من البشر، بالتحديد 7 مليارات في كل بقاع الأرض، فكيف ستتضاعف كمية المعاملات والتبادلات التجارية عن استخدام تقنية blockchain؟

لا شك أن تقنية blockchain  في بداياتها، فإنها قيد تغيير مفاهيم اقتصادية في السنوات القادمة، وقد تعمل على إيجاد حلول لقضايا اقتصادية مستعصية كالحد من نسبة الفقر، والبطالة المنتشرة في معظم الدول النامية، وتأمين التعليم في المناطق البعيدة وللشعوب الفقيرة، والحد من التفاوت الكبير بين نسبة الدخل لدى الشعوب وغيرها من التحديات الاقتصاديات التي تثقل كاهل الحكومات والدول  الأقل حظاً على وجه التحديد.

قد يُسهم blockchain على إيجاد سبل كثيرة لرفع الإنتاجية وتنمية البشرية، فهذه التقنية إن استطعنا دراستها عن كثب ومحاولة الاستفادة منها ربما ستكون السبب في خلق أثر إيجابي كبير على اقتصاد المنطقة، وخلق فرص جديدة في مجتمعاتنا الشابة.

 

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
إيمان عبدالرحيم
مستشارة اقتصادية
تحميل المزيد