كنا في معرض للأنشطة الطلابية، نرى مواهبهم، وابتكاراتهم، وما صنعت أيديهم من لوحات فنية، ورسومات، ومجسمات، واختراعات بسيطة، حين مال صاحبي وهمس في أذني مستنكراً:
ما الفائدة من كل هذا؟!
واستطرد وهو يتلفت حوله:
أنا لا أرى أي فائدة تعود على الطالب من كل هذه الأعمال.
– أجبته على الفور وكأني أريد إصلاح ما أفسده، أو طرد أثر ما قاله عن أذني وقلبي:
الغرض من الأنشطة هو تنمية فكر الطالب وخياله وقدرته على الابتكار.. الطالب يتربى ويتعلم وينمو نفسياً وبدنياً وفكرياً واجتماعياً من خلال مثل هذه الأنشطة.
– المدهش أن صاحبي هذا هو أحد القيادات التعليمية المنوط بها تعليم الأطفال وإعدادهم للمستقبل.
الكثير من القيادات التعليمية لا تدرك معنى الأنشطة المدرسية، ولا تعرف لها قيمة، بل وتعتبرها مجلبة للصداع ونوعاً من الدَوشة، تنحصر العملية التعليمية من وجهة نظرها في حبس الطالب صامتاً بالساعات في الفصل أمام من يبخ في أذنه مجموعة من المعلومات ثم ينصرف، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
الأخطر أن العديد من هذه القيادات دون فلسفة أو فكر.. لا تُفرّق بين رؤية ورسالة، أو قيادة وحوكمة، أو بين تعليم وتعلم.. كل همها اتباع الروتين وتستيف الأوراق، وشكليات لا تمت للعملية التربوية بصلة، مبرر وجودها في موقع القيادة فقط هو إما معيار الأقدمية غير الموجود في العالم كله، أو معيار الوساطة والمحسوبية وهو معلوم للجميع بالضرورة.
– القيادة في أي عمل هي الأساس، إذا صلحت صلح سائر العمل، وإذا فسدت فسد سائر العمل، والسمكة تفسد من الرأس.
تثبت الكثير من الدراسات العلمية أن أحد الأسباب الرئيسية في عدم تحقيق جودة التعليم هم القيادات التعليمية أنفسهم، والتي تخشى من التغيير وترفضه وتقاومه، ولا تعي ماهية الجودة ولا أهميتها.
ترجع هذه المقاومة إما بسبب الخوف من كل ما هو جديد، أو لجهل بطبيعة وأسباب هذا التغيير، أو لخوف على مصالح وامتيازات شخصية مع النظام القديم.
– المثير هنا أن من يفترض أن يقوموا بتوعية العاملين والمجتمع بأهمية الجودة ونشر ثقافتها هم أنفسهم غير مقتنعين وغير مؤهلين، بل هم العائق الرئيسي.
– رائعٌ هو حديث وزير التربية والتعليم عن تطوير التعليم، ذلك التطوير الذي يشمل المناهج، وتنويع مصادر التعلم وعدم الاقتصار على الكتاب المدرسي، وتطوير طرق التدريس بحيث تثير اهتمام الطالب أثناء الموقف التعليمي، وتعمل ذهنه وتدفعه إلى البحث والتقصي للوصول إلى المعلومة بطريقة شيقة وممتعة، وكذلك حديثه عن تطوير نظام الامتحان، وما أدراك ما الامتحان، فآفة مدارسنا الامتحان.
– الحقيقة أن ما جاء به الرجل يبدو قناعة من لدنه بأهمية التطوير، أو استجابة لما ينادى به كثير من الباحثين والتربويين منذ عقود، أو بفعل مدارس هجرها الطلاب وتحولت إلى أطلال لا بواكي لها، أو قد يكون رد فعل لكارثة خروجنا من الترتيب العالمي للتعليم.
– الإيجابي أن تسمع المسؤول الأول عن التعليم يتحدث عما طالب الجميع به من قبل، فما تحدث به الوزير لا يخرج عما جاء بالجزء الأول من مقالنا هذا، من حتمية جودة التعليم، والتي دعونا إلى جعلها قضية أمن قومي من الدرجة الأولى، والقضية القومية الكبرى التي تتجمع عليها الأمة.
– على أية حال، نقول بحق وحقيق: أفلح إن صدق وأفلح إن طَبًق. فالأفكار موجودة والنماذج والمعايير العالمية موجودة، وقد قطع العالم فيها أشواطاً، ومشكلتنا دائماً في التطبيق الصحيح، والشيطان دائماً يكمن في التطبيق. التطوير قرار جريء طالما نادينا به، لكنه سيظل في خانة الريب والشكوى إلى أن يتبلور فى تنفيذ صحيح.
– ولنا هنا عدة ملاحظات وتساؤلات مهمة حرصاً على ألا تلحق هذه المحاولة بغيرها من محاولات سابقة لم يجن منها المجتمع إلا ضياع الوقت والجهد، ومزيداً من الخوف والتوتر على مستقبل الأبناء، ناهيك عن الخسائر المادية، وكذلك يقيناً منا بأن نظاماً جيداً للتعليم في مصر معناه خلق نموذج يصلح للانتشار في منطقتنا العربية كلها:
أولاً: كيف يمكن إحداث طفرة في التعليم في ظل نوعية القيادات سالفة الذكر، هذه القيادات التي تُعد سبباً ونتيجة لما نعاني منه، هى سبب وشريك فيما وصل إليه حال التعليم، وهي نتيجة ومخرج من مخرجاته.
يقيناً الكثير من القيادات تقاوم التغيير وكانت سبباً في الإبقاء على نظام تعليمي لا يُعلّم أحداً، وتربية لا تربي اللهم إلا الوالدين في البيوت.
القيادة التي تربت على السمع والطاعة دون مناقشة، كيف لها أن تنمي في الطالب الإبداع، من تربى على القديم ليس بوسعه تقديم الجديد، ففاقد الشيء لا يعطيه، وكل إناء ينضح بما فيه.
ثانياً: التطبيق المفاجئ دون مقدمات وبقرار فوقي لن يعطي النتائج المرجوة، يجب أولاً عمل نوع من "التهيئة" لجميع المشاركين في العملية التعليمية، هذه التهيئة تشمل نشراً لثقافة الجودة الشاملة، التي أحد مبادئها المشاركة، وتعني مشاركة العاملين في جميع مراحل الجودة من التخطيط وحتى التقويم، فكيف تحقق أهدافاً جيدة دون مشاركة من سيقوم بالتنفيذ؟
ثالثاً: السؤال الوجودي، الذي لم يصادف إجابة حتى الآن، كيف يمكن التطوير دون النهوض بحال المعلم مهنياً ومادياً واجتماعياً وهو حجر الزاوية الذي بدونه يفشل كل تطوير؟ أُعلن أن التطوير يبدأ مع بداية العام الدراسي القادم والذي يبدأ بعد أشهر معدودات، فكيف ستزود من مهام المعلم وواجباته دون الاستجابة لصرخاته من ضعف الرواتب والحوافز والمكافآت، خاصة بعد زيادات الأسعار التي لا قبل له بها؟
رابعاً: هل المبنى المدرسي الحالي جاهز لما نرجوه من تطوير؟ كيف حال المعامل والمختبرات والملاعب والمكتبات وأجهزة الكمبيوتر بهذه المدارس؟
خامساً: ضروري في أى تطور تطبيق مبدأ الثواب والعقاب، الموجود حالياً عقاب فقط، فلماذا يحسن العامل أو فريق العمل ويجيد ويطور ما دام في النهاية المكافآت والحوافز واحدة، والترقية للأقدم وليست للكفء؟
سادساً: حسب ما أُعلن، يتم تطبيق النظام الجديد بداية من رياض الأطفال، ومن الصف الأول الثانوي، واستثناء أبنائنا من الصف الأول الابتدائي وحتى الصف الثالث الإعدادي، بسبب ما قيل عن نقص الميزانية، ولكن أليس ظلماً وإخلالاً بمبدأ تكافؤ الفرص أن تحرم هذه الأجيال من تعليم جيد؟
– نقترح هنا على الأقل تغيير نظام الامتحان في هذه الفترة الدراسية، فلن يكلف ذلك أي نفقات إضافية.
كل هذه وغيرها أسئلة مشروعة نتمنى أن نرى لها إجابة شافية خلال الفترة المقبلة.
رب اجعل هذا البلد آمنا وارزق أهله من الثمرات.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.