أثارت مِحنة السوريين على مدار السنوات الماضية الكثير من الأسئلة والإشكالات، بعضها كلاميّ يتناول العدل الإلهي، وبعضها تشريعي يتناول مسائل عديدة؛ مثل الهجرة واللجوء والزواج والتعدد وغير ذلك، ولكنني سأخصص مقالي هذا لمناقشة مسألة واحدة هي الزواج من "زوجة شهيد"؛ باعتباره واجباً شرعياً وأخلاقياً أو حلاً لمشكلة النساء اللائي فقدن أزواجهن في الحرب الدائرة.
فتعدد الزوجات -وفق الرؤية المطروحة هنا- لا يصبح إحصاناً للمرأة والبرّ بها فقط، وإنما هو خدمة ورعاية اجتماعية للمرأة وأطفالها، وبرّ بهم، والقيام على شؤونهم.
القضية المركزية هنا هي مشكلة وجود نساء أيامى بلا عائل لهن ولأولادهن، والحل المطروح لمعالجتها هو الزواج بهن من متزوجين قادرين؛ لأنهم أقدر على الوفاء بسدّ حاجاتهن. أي إن الصيغة التي تُقدَّم بها المشكلة والحل صيغة أخلاقية رسالية تُستَجلَب لها الأدلة الشرعية التي تتمحور حول أمرين: شرعية تعدد الزوجات، ومصلحة صون المرأة ورعاية أولادها.
ولكن على الرغم من أن هذا الحل يوهمنا بأن دافعه أخلاقي، يكشف -في حقيقة الأمر- عن مأزق أخلاقي على مستوى النظر والوعي وعلى مستوى الممارسة، وليس الهدف هنا مناقشة شرعية التعدد من حيث المبدأ، وإنما مناقشة التعليل الذي يُراد إضفاء بُعد أخلاقي عليه.
يقوم التصور السابق للمشكلة على مأزق مركب من أمرين: عيش المرأة وحيدة بلا زوج، وغياب العائل الذي يرعى الأم والأولاد، ولكن هذا التصور بحاجة إلى تفكيك، فعيش المرأة وحيدة بلا زوج ليس مشكلة سواء كان باختيارها أم رغماً عنها؛ لأنها مسألة اجتماعية ثقافية تختلف من مجتمع لآخر، أي إنها راجعة إلى "سياق" محدد، وقد وعى الفقه الإسلامي هذا المعنى حين قرر أن الحكم الأصلي للزواج هو الإباحة، وأي انزياح عن حكم الإباحة إلى غيره هو انزياح لعوارض أخرى لا صلة لها بذات الزواج.
أما مشكلة غياب العائل فهي جزء من مشكلة ثقافية واجتماعية أيضاً دأبت على تربية البنت على أنها "تابع" اقتصادياً ونفسياً واجتماعياً، فإذا مات المتبوع ضاع التابع، ولذلك لا بد أن تضمن استمرارية هذه العلاقة التبعية عبر إيجاد متبوع آخر للتابع، وهو جزء من مشكلة تَصَور مفهوم القوامة وتشوهاتها الاجتماعية والثقافية؛ لأنها آلت إلى إلغاء استقلالية المرأة ككيان إنساني صاحب إرادة حرة ومستقلة؛ لأنه من دون هذا التصور سيختل كل النظام الأخلاقي في المسؤولية والتكليف والجزاء دنيوياً وأخروياً، وسيترتب عليه ضياع مقاصد كبرى للدين منها: حفظ النفس والعقل بإطلاق.
ولا نتحدث هنا عن حفظهما بالمعنى الأدنى (البقاء على قيد الحياة، وعَقل الخطاب وفهمه) ولا عن حفظهما بواسطة الغير، بل عن حفظ النفس على تمامها حتى تكون منعّمة على الإطلاق نفسياً وجسدياً، وحفظ العقل حتى يَسرح حراً دون عوارض إكراه اجتماعي ونفسي وثقافي، ويكون صاحبه مالك إرادة حرة وفق اختياره الذاتي.
الجانب الآخر من مشكلة التصور يرجع إلى اختلال الأدوار الاجتماعية للمجتمع والدولة والأسرة الممتدة والفرد، وهو ما تُوفر له الشريعة منظومة متكاملة من الحقوق والواجبات (الميراث، والنفقات، والصدقات، والزكوات، والمال العام، والوقف، والكفالة، والولاية..) وهي التي يُناط بها -في الأصل- معالجة مثل هذه المشكلات بوصفها حقوقاً لا مِنَّة ولا استجداء، ولذلك حفَل الخطاب القرآني بتأسيس بنية تفصيلية للحقوق المالية والاجتماعية؛ رغم أنه لم يخض في كل تفاصيل الفقه.
فالذين ينادون بالزواج من زوجة شهيد باعتباره الحل الوحيد المطروح، يَصدُرون عن خلل في تصور المنظومة ككل من جهة، ويتفادون التفكير في أدوار المجتمع والدولة من جهة أخرى في معالجة مثل هذه المشكلات، ويختزلون منظومة الحقوق في موضوع الزواج فقط الذي يتحول -معهم- إلى مؤسسة للإعالة!
ويمكن النظر إلى المشكلة المطروحة "الأيامى بلا عائل ممن خلّفتهم الحرب" من مداخل متعددة: المرأة الأيّم نفسها، والأولاد الذين توفي عنهم أبوهم، والزوج المرشَّح (الحلّ). والتصور المطروح هو أن توفير الزوج المرشح سيحل مشكلة المرأة والأولاد معاً وبهذا يكون تصرفاً أخلاقياً؛ لأنه ينهض بواجبات اجتماعية ويتحمل مسؤوليته عن الغير، ويحقق مصالح شرعية هي إعفاف المرأة ورعاية الأولاد. ولكن هذا التصور يعاني من مشكلة أخلاقية حقيقية بالرغم من الصيغة الأخلاقية التي يتظاهر بها، وتتلخص المشكلة في عدة نقاط ألخصها في الآتي:
أولاً: هذا المنظور منظور أحادي من وجهة نظر الرجل المُخلِّص بنفسه أو بغيره، ولكنه لا يراعي اعتبارات الأطراف الأخرى من المشكلة كالمرأة الأيم والأولاد الذين يحضرون بصفتهم موضوعاً فقط وذوي إرادة مُصمَتة، وكالأخطار المحيطة بمثل هذا الزواج الذي يمكن أن يفاقم المشكلة في حالة سوء الاختيار أو الاستغلال، خصوصاً أن الأمر تعدى الأيامى وأسفر عن استغلال حالات لاجئات كثر من العازبات من المدخل نفسه وبالحجة نفسها، كما أن هذا المنظور لا يستحضر اعتبارات الزوج (الحل) الاجتماعية والعائلية وغيرها؛ ولكنه يفكر فقط في بُعد واحد هو "الاقتدار" المالي والبدني، خصوصاً أن العلوم الاجتماعية تزودنا بآليات لمعرفة الإحصاءات والنسب وعمل استبيانات ودراسة الحالات لتشخيص واقع فعلي لا مظنون أو موهوم، وهو ما يجب على المفتي أو المتصدي لمثل هذه المشكلات أن يستعين به قبل أن يطلق الأحكام على عواهنها.
ثانياً: مركزية البعد المالي والشهوي في مقاربة المشكلة، فالزواج هو الحل المتَصوَّر لكل هذه المشكلات؛ لأنه يوفر ما هو مفقود: المال وإشباع الغريزة.
ولكن هذا الحل يفرض تساؤلاً مهما حول مفهوم الزواج نفسه ووظائفه ومقاصده، فهل هو "سُترة" للمرأة، أو رعاية للأولاد، أو إحصان؟ وإذا كان لغرض الإحصان فهو إحصان لمن؟ للزوج المُعدِّد أم للمرأة الأيّم؟ وهل يتحقق إحصان المرأة من دون رغبة حرة منها؟ يتفق الفقه الكلاسيكي على أن المقصد الأصلي للزواج هو الاستمتاع، أما المقاصد التبعية فهي متعددة، ولكن لا يُجعَل المقصد الأصلي تبعياً والتبعي أصلياً، وإذا ما أردنا تغيير المقصد الأصلي للزواج فإن المنظومة الفقهية كلها ستتغير.
ثالثاً: يُقدم الزواج (الحل) على أنه عمل أخلاقي؛ رغم أن هذا الإنفاق وتلك الرعاية المتوقعة هي مقابل الزواج الذي هو -في محصلة الأمر- استمتاع وبناء أسرة تقوم على السكن والرحمة، أي إن أخلاقية هذا الفعل محلّ شك؛ لأنه عملية تبادل منافع: الإنفاق مقابل الاستمتاع الحلال. وهو جزء من مشكلة تفكير ديني فقد الحساسية الأخلاقية في ميادين متعددة، منها: عدم رعايته لمبدأ تعارض المصالح (conflict of interests) ومن أبرز تجلياته أن يتم تسخير العمل الخيري -مثلا- لأهداف ومصالح جماعة أو دعوة معينة أو لجماعة تعمل في السياسة وتنافس على السلطة، والسؤال المطروح هنا: هل يكون الزواج عملاً خيرياً بهذا المعنى؟ ألا يُخل العمل المشروط بدوافع أخرى (مصالح الشخص المُقدِم على الزواج الثاني هنا) بأخلاقية العمل نفسه؟
رابعاً: التعليلات التي تقدّم الزواج حلاً لمشكلة اجتماعية تُواري المقصد الأصلي الذكوري؛ وهو طلب المتعة في ظروف استثنائية تجعل الحصول عليها متخففاً من أعباء وتعقيدات الأحوال الطبيعية، فتكاليف الزواج من امرأة أيم أو بكر تحت إكراهات متعددة تختلف عنها في الظروف الطبيعية، وهذا كله من شأنه أن يؤثر على إرادتها الحرة في الاختيار فيجعل تصرفها تصرفاً مُكرَهاً، ومن شرط الفعل الأخلاقي أن يصدر عن فاعله بالاختيار الحر، وتقدم حالات النساء السوريات اللاتي لجأن إلى ألمانيا ثم طلبن الطلاق من أزواجهن بعد سنين طويلة دليلاً مهماً في هذا السياق؛ لأنهن تَوفر لهن الاستقلال والكفاية فآثرن التحرر من ربقة زواج قهري.
وقد ميز فقهاء الحنفية -ببراعة- بين نوعين من الإكراه يُخلان بأخلاقية الفعل هما: الإكراه المُلجِئ والإكراه غير المُلجِئ، فالإكراه المُلجئ يكون بإتلاف نفس أو مال أو قتل من يهمه أمره، وهو إكراه يُعْدِم الرضا (الرغبة في الشيء والارتياح إليه) ويُفسد الاختيار ولا يُعدمه؛ لأن الاختيار هو القصد إلى فعل الشيء أو تركه بترجيح من الفاعل نفسه، وهذا المعنى لا يزول بالإكراه، فالمكرَه يوقع الفعل بقصده إليه، إلا أن هذا القصد لا يكون صحيحاً سليماً إلا إذا كان نابعاً عن رغبة، فإذا كان من باب ارتكاب أخف الضررين فهو قَصْد فاسد، كمن أُكره على أحد أمرين كلاهما شر، ففَعل أقلهما ضرراً به، فإن اختياره لِمَا فَعله لا يكون اختياراً صحيحاً بل اختياراً فاسداً.
فالمرأة -وخصوصاً ذات الأولاد- بلا عائل في حالة فقدان رغبتها الحرة تدور بين إكراهين: الإكراه الملجئ وقد سبق توضيحه، والإكراه غير الملجئ الذي يدور حول ما يَخرج بالمرء عن الحياة الطبيعية لأقرانه بما يحفظ اختياراته وحرية تصرفاته (يمثل له فقهاء الحنفية بما لا يفوّت النفسَ أو الأعضاء كالحبس لمدة قصيرة، والضرب الذي لا يؤدي إلى الموت)، وهذا النوع يُعدِم الرضا ولكن لا يُفسد الاختيار؛ لأن الفاعل المُكره غير مضطر إلى الإتيان بما أُكره عليه؛ لتمكنه من الصبر على تحمل الإكراهات.
خامساً: الحل المطروح للمشكلة يخلط بين اعتبارين مختلفين: حفظ الآدمية وحفظ الكرامة الإنسانية، وقد تنبهتُ في دراستي للإجهاض والنقاشات الفقهية حوله إلى أنه يمكن لنا أن نميز بينهما بالاستناد إلى كلام الفقهاء أنفسهم، فحفظ الآدمية هو حفظٌ للجسد الفيزيائي وحركة اغتذائه، أما حفظ الكرامة الإنسانية فهو قيمة أعلى؛ لأنها تتناول (نوعية) عيش الإنسان؛ بما يشمل إرادته الحرة ورضاه وأبعاده النفسية والذهنية وهو ما لا تلتفت إليه النقاشات حول "الزواج من زوجة شهيد".
سادساً: معالجة المشكلة التي نحن بصددها لا صلة لها بمدخل مناقشة تعدد الزوجات؛ لأن منطق نقاش التعدد نابع من وجود رغبة بالزواج نفسه ولأحوال المتزوج/الرجل نفسه فيما يتصل بموضوع عقد الزواج؛ أي إنه راجع إلى مقاصد المكلَّفين لا إلى مقاصد الشارع؛ ومن هنا ذهب فقهاء الشافعية والحنابلة إلى أنه "يُستحب" ألا يزيد الرجل في النكاح على امرأة واحدة من غير "حاجة ظاهرة"؛ إنْ حصل بها الإعفاف؛ لما في الزيادة على الواحدة من التعرض للمحرم وهو فوات العدل. أي إن الزواج يدور على مقاصد "المكلف" وحاجاته، وهو مقيَّدٌ بضمان العدل بين الزوجات وهو محل شك من حيث الأصل؛ ولذلك رأى الحنفية "إباحة" تعدد الزوجات إلى أربع؛ بشرط أَمْن عدم الجور بينهن.
وبناء على هذا المعنى لا يمكن للتعدد أن يتحول إلى سنة -كما يزعم الظاهرية- فضلاً عن واجب؛ لأنه منوط باعتبارات "بشرية" تتبع مقاصد المكلفين لا مقاصد الشارع، كيف والزواج الواحد في أصله مباحٌ؟!
الفكرة الجوهرية التي أُلحّ عليها في هذا المقال ومقالات سابقة مثل "التصدق على من يُظن به شراء بيرة" و"قَوَامة القرآن والذكورة ونقصان الأنوثة" هي أنه يجب استنقاذ الأخلاق من الدائرة الضيقة التي حُصرت فيها؛ لأن ضمور الجانب الأخلاقي جعل من أحكام الفقه ذريعة لكل راغب، فما أحوجنا إلى فلسفة الأخلاق؛ لصيانة الدين والفقه ولتحقيق إنسانية الإنسان.
أما إكراهات السياق الاجتماعي المعين فلا ينبغي أن تتحول إلى أصل يُقاس عليه أو تتم شرعنته من قبل مُفت يُفترض به أن يجترح -بصحبة استشاريين اجتماعيين وفاعلين آخرين- حلولاً ترتقي بالوعي إلى النموذج الأخلاقي المنشود الذي جاء الدين لتحقيقه.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.