عزيزي الله.. لا أريد أن أتحوّل لحيوانة أرجوك!

عربي بوست
تم النشر: 2018/05/08 الساعة 10:25 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/05/08 الساعة 10:25 بتوقيت غرينتش
Portrait of a lady. Vector illustration.

"أكتب لا لأنقذ البشرية وإنما لأنقذ نفسي". هذا كان جواب الشاعر الأميركي تشارلز بوكوفسكي عندما سُئل لماذا يكتب. هذا بالتحديد وجه الاختلاف بين بوكوفسكي وفيودور ديستوفيسكي، الروائي الروسي؛ أن الأول في زمننا هذا أدرك حقيقة أن لا شيء سينقذ العالم. فيما كان يظن ديستوفيسكي أن "الجمال قد يُنقذ العالم". أعتقد أن بوكوفسكي كان أكثر حكمة من ديستوفيسكي في ذلك. ولو أن الجمال يستطيع أن يُنقذ العالم فكيف وصل العالم إلى هنا؟ لا شيء سينقذ العالم، سينتهي كل شيء، ببساطة كما بدأ. ليس لدي مشكلة حقيقية مع ذلك؛ بل يبدو الأمر لطيفاً أن كل هذا سينتهي يوماً ما.

مشكلتي أنه من الآن وحتى ينتهي العالم، أو عالمي وحياتي أنا على وجه التحديد، أريد ألا أتوحَّش أو أخسر احترامي لنفسي أو أطيح سبّاً وقذفاً في جميع الخلق. هذه مهمة ثقيلة وصعبة حقاً؛ ألّا يتحوَّل المرء إلى حيوان في عالم لا يكفُّ عن الحَيْوَنة لهو حتماً أمر جلل. وأنا، ليلاً في الغالب، أفرد جسدي على السرير وأدرك أني لا أجيد تنفيذ الأمر كما ينبغي، أعني عدم التحول إلى حيوانة؛ ذلك لأن عدم التحول ذاك يقتضي أن يُترك المرء وشأنه. لكن، ماذا إن لم يُترك المرء وشأنه؟ لا أريد أن أضيِّع عمري أو أفكاري أو مشاعري برفقة أشخاص لا أستطيع أبداً أن أكون معهم كما أنا.

"إيه المساخيط اللي أنتي معلّقاهم على الحيطان دول؟ وحشين أوي. أنتي بتحبي حاجات غريبة، لا يا شيخة.. حرام عليكي شيلي القرف ده". بهذه الصيغة الوحشية تصف طنط من الطنطات لوحة "Freyja's tears" لآن ماري ذيلبرمان. لا أخفي سراً، أنّ جملة تافهة كتلك، مِن طنط أتفه مثلها، تستطيع العبث بدواخلي. وتسويد "العيشة واللي عايشنها" عليّ فترة من الزمان، قد تطول أو تقصر، حسب السياق المرير الذي تسير به أمُّ الأيام الرتيبة. المشكلة أنني لا أستطيع تفسير سبب سيطرة هذا الشعور عليَّ. لقد شعرت بأنني وحيدة، وحيدة للغاية، وحيدة ويكأن لا بشر غيري على الأرض! إحساس قاسٍ بالوحدة والبرد ينخر كياني. أنا وكل ما يقبع بداخلي من لوحات وخيالات وترجمات واقتباسات وأشكال وألوان نهيم في فضاء أثيري بمفردنا للأبد. ضرب رأسي وقتها كلام الشاعر اللبناني وديع سعادة: "وإن أردت رفيقاً! فأيّ رفيق أعزّ مِن وحدتك!". كنت وحدي في تلك العُزلة العاجية، ومن الحماقة والغباء أن أحاول شرح طبيعة اللوحة لطنط تلك.


لوحة Freyja's tears

ما علينا.. هناك أصوات مستفزة تتناهى إلى سمعي كلّ يوم. أصوات أشبه بالنعيق.. سمَّيته "نعيق الأوساخ القذر".. كلّ مَنْ عنّفوني أو "بَكّتوني" على اهتماماتي المثيرة للريبة. "ما تسيبك من الصور اللي لحست عقلك دي. لِوح إيه اللي انتي بتجمّعيها. وهتستفادي بها إيه!". وأنا كما أنا، بعض لوحات مُعلَّقة على الحائط، وبعض رسومات طفولية في مُذكرة خبَّأتها بعناية بين الكتب القديمة، وأخجل لسبب ما لا أعرفه أن أنشرها بين الناس، صور حميميّة مع أشخاص كُثر لا أحبّهم، وضفيرة سمراء طويلة تسترسل في الليل وتهدر كموج البحر، على أملٍ شاحب، بأن ترسم طريق العودة للضالين في المُدن البعيدة. لن يفهم الأوساخ أبداً مهما شرحت لهم. لن يفهموا حُبّ الفنّ كنوع مِن الوعظ الديني بعيداً عن أي دعاية دينيّة برجوازية. لن يفهموا أبداً أن مقدار آدمية المرء يتناسب تناسباً طردياً بقدر قُربه أو بُعده من الفنون.

ما علينا.. ألا يكفي أننا بالفعل ندفع ثمن اهتماماتنا الغريبة وحدةً وعزلةً..! أحتّى عندما نتجنب الرد على كل هذا النعيق يُساء فهمنا؟! ماذا نفعل إن كان الصمت لا يزيدنا إلا كلاماً. وإن برّرنا! ألن يزيدنا التبرير إلا غموضاً؟ آآآه، يا ترى ما الحالة التي وصل له الصوفي الكبير جلال الدين الرومي حين قال: "لقد لُذت بالصمت يا الله، لكن صعد النواحُ مِن روحي دون إرادة". هذه هي، لُذت بالصمت، لكن صعد النواح. إن ما يوجع قلبي -يا الله- حقاً هو الإحساس المُفرط بمدى قُبح أو جمال الأشياء؛ وهو ما أدى بدوره لإحساس مُفرط بالوحدة.

أنا أعي -يا رب- أنهم لن يفهموا معنى أنهم "يحطمون قلبي"، وحتّى لو شرحت لهم فسيظنون أن تحطيم قلبي، يبدو كتحطيم بعض أغراض المنزل، يُمكن إصلاحه أو تبديله..! قُل لهم إنّ قلبي ليس له أيّ قِطع غيار يا ربّ.. أرجوك..! كيف لا أتحول إلى حيوانة وأنا أسمع "نعيق الأوساخ القذر" كل يوم يا ربّ! إنّهم في كل مكان، كالزومبي، يتحركون حولي كل يوم وفيهم الكثير مِن الموت والقليل مِن الحياة، وقليل مِن الحياء، لا يستحون مِن بثّ الكآبة والظلام والكدر كمهمة يوميّة مُقدسة.

عزيزي الله، لا أريد أن أتحول إلى حيوانة! أرجوك..! أنا هند التي كانت تُضيء كل أنوار البيت وهي طفلة وحيدة بُمفردها؛ لأنها كانت تخاف وتكره الظلام..! انظر يا رب، كيف عمَّ الظلام العالم! وأنا، كبوكوفسكي، لا أُجمّع اللوحات أو أنشر الفنّ لأُنقذ العالم؛ بل لأُنقذ نفسي مِن أن أصير مثلهم. ومهما يكن مِن فواتير واجب دفعها لأكون ما أنا عليه، عُزلة أو وحدة، فسأتحمل وأدفع بشجاعة مُحارب. المهم ألا أكون مثلهم أبداً يا رب.

مع حبي.. هند التي لا تزال تخشى الظلام.

مدونات الجزيرة

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
هند مسعد
كاتبة في الفن التشكيلي
تحميل المزيد