حتى الرسول غفر لوحشيّ لكنه لم ينسَ فعلته!.. عن ألم المسامحة والغفران

عربي بوست
تم النشر: 2018/05/07 الساعة 08:27 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/05/07 الساعة 08:27 بتوقيت غرينتش
Wood - Material, Asia, East Asia, Fatih District, Istanbul

الغفران ليسَ بالأمر السّهلِ على الإطلاق، إنّه عمليةُ تشويشٍ على العقل، يدفعُكَ نحوَها قلبُك المليءُ بالثقوب، فتسيرَ إليها عبرَ طريقٍ لا ترغبُ في المشي فيهِ منذُ البداية، تلتقي فيهِ بكلّ الوجوهِ التي آذتك، تمرُّ على مواقفهِم وكأنّكَ أمامَ شريطِ عرضٍ سينمائيّ بطيء، في كلّ مشهدٍ تستعيدُ لحظاتِ حزنكَ الوحيدة، كآبتك، ووحدتك، وذاكّ النَّزيفُ الذي سبّبته كلماتهُم القاسية ومواقفهم المُخزيّة، ثمّةَ مشاهد تقفُ عندها مندهشاً، دهشةَ طفلٍ يرى صورتَه لأول مرةٍ في عدسة التصوير، ومشاهد أخرى تشعرُ وكأنّك امرأةٌ مُسنّة تُلقي النظرةَ الأخيرةَ على ذكرياتها قبل أنْ تَفلِتَ منها عَصَاها وتُغادر، في تلكَ اللّحظة أنت تظنُّ أنّك قد سامحتَ مَن أخطأَ في حقّك، وغفرتَ لِمَن جَرحك، ولكنّك تكتشفَ أنك ممتلئٌ بجراحهم كخزانةٍ مليئة بالثياب، يبدو عليها الانفجار في أيّة لحظة، تنتظرُ منكَ فتحَ بابها المُنتفخ؛ لتَرمي على وجهك كلّ تلك الثياب المُكّدسة في الداخل، عندها تتأكدَّ متأخراً مِن أنّ فجوةً كبيرة بينكَ وبينه، لا تستطيعُ خلالها، حتى احتمال سماعِ اسمِهِ يُذكرُ أمامك.

أمرُّ على قصة وحشيّ بن حرب مع سيّدنا محمد، عندما قَدِمَ إليه مُسلّماً، فأتخيّل الحَدَث وكأنّه أمامي، كم كانَ قلبُه صلّى الله عليه وسلم حزيناً ومتألّماً، على فراقِ عمّه حمزة، حتى طلبَ مِن وحشيّ أنْ يشيح عنه وجهَهُ، قائلاً:

"إن استطعتَ أن تغيّب عنّي وجهكَ، فافعلْ".

وفي روايةٍ أخرى، "أمَا تستطيعُ أن تغيّب عني وجهك"؟

وهذا دليل على أنّه -وإنْ سَامَحنا- لن نستطيعَ أن ننسى بسهولة.

قصةٌ أخرى، لصديقةٍ اختارتْ أن تُسامحَ زوجها، ولكنْ على طريقتِها الخاصة، معَ بداية كلّ عام، تقتني دفتراً تسجّل فيهِ كلّ أخطائِه وعثراته، تضعُ إشارةً بالأحمر أمامَ الكبيرةِ منها، وتكتفي بالأسود عند البسيطة، والقليلة الصغيرة، وإذا ما مرّ يومٌ من دونِ أخطاء، تكتُب ملاحظاتها كالتالي: "يوم هادئٌ دافئ"، تُخبرني أنَّ الفكرةَ لمعتْ في رأسِها بعدَ أنِ اكتشفتْ خيانتَه لها معَ فتاةٍ تعملُ معه، طلبَ منها أن تُسامحَه وفعلتْ؛ لأنّها تحبه ولا تستطيعُ الطلاق والعودةَ لبيتِ أهلها بولدٍ في حضنها.

تقول: "يُساعدني هذا الدفتر في التّنفيس، عندَ نهايةِ كلّ عامٍ أقومُ بحرقِه، إنّني أدرّبُ نفسي على مشقّة الغفران".

صديقةٌ أخرى ترى في الغفران أمراً صعباً، بعدَ سنواتٍ من علاقتهما واستهتاره وتأجيلِهِ لموضوعِ الزواج، واجهتُه بأنَّ خاطباً سيتقدم لطلبِ يدها من عائلتها في الأسبوع القادم، لمْ يصدقها حينها، وظنَّ أنَّها تكذبُ عليهِ؛ كيْ تحشُرَه في الزاوية، وتُجبرَه على المجيء، ولكنّها وبكلّ شجاعة وافقت على الخاطبِ الجديد، عندَ سماعه الخبر، اتصلَّ بها باكياً، يحثُّها على التراجع، لكنّها وبرغم حزنها، استجمعتْ قواها وقالت له: "أنت مَن أضعْتَني والآن لا يُمكنني التراجُع".

لا تنكِرُ أنّها عندَ كلّ شِجَارٍ بينها وبينَ زوجها، تتذكرهُ قائلةً: "الله لا يسامحك"، فَبِحسب قولها: لا يُمكنها أنْ تغفرَ لِمَن تركها ولم يتّخذْ موقفًا جاداً مِن أجلها".

لا ألومُها على الإطلاق، قدْ يحدُث أنْ تلتقيَ بأشخاصٍ لدناءتهم، يقتلونَ حتّى قدرتك على الصّفح والغفران، يدفعونكَ للتخفُّفِ من العلاقاتِ دفعاً، يجعلونكَ تختارُ احتضانَ نفسك بنفسك، على الجلوس معهم، فالغفران كأيّ فعل، يتطلّب شجاعةً كبيرة، لا تقلُّ قيمةً وقوةً عن شجاعةِ الاعتذار والتخلّي والنّسيان. خاصةً وأنَّ الكثيرين ممّن نمنحهُم فرصةً ثانية وثالثة، يُعيدون الكَرَّة؛ لأنهم واثقون أّننا سنسامحُهم مرةً أخرى. هؤلاء، لا يستحقونَ منك فرصةً ثانية، يكفي أن ترمي بورقتهم من أعلى الجرف، وتُشيّعَ جنازتهم إلى مثوى انحدار أخلاقهم الأبديّ.

في النهاية، نحنُ لسنا ملائكةً أو أنبياء حتّى نصفحَ سريعاً بابتسامةٍ عريضة، وحدَه الله مَن يُسامح ويغفر، نحنُ كبشر، ندرّبُ طاقتنا فقط، بوضعِ قِطَع ثلجٍ باردة على كَدَماتِ مَن أخطأوا في حقّنا، دون أن نتأوّه بصوتٍ عالٍ، ندرّبُ طاقتنا على أن "نذهبَ بعيداً عنهم، دونَ أن تؤلمنا خطواتنا"، على أن نمسحَ آثارِ طريقنا المليئةِ بجروحهم، بالدّوس على تلكَ النّدوب دونَ شعورٍ بالألم، على أن نثبتَ بقوة دونَ أنْ نميل، بعدَ كلّ تلكَ الرَكَلات على أقدامنا، واللَّكَمات على وُجوهنا، على أن نعتبرَ تلكَ الطَّلْقة التي صُوّبَت على ظُهورنا، محوّلةً إيّانا لشَظايا متناثرة، مُجرّد مفرقعات، تتماثلُ حُروقها للشّفاءِ سريعاً.

فأنْ تُسامحَ أحدهُم لا يعني أنّك نسيتَ ما فعلهُ بك، أنتَ فقط أغلقت أزرار قلبك، بعد أن رميتَ بصورتِهِ الجميلة مِن ذهنك، وتجاوزتَ على مَضَض تلكَ الصورة والمواقفَ السيّئة التي قام بها اتجاهك، دون أن يرفّ له جفن، أو يؤنّبهُ ضمير.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
خولة شنوف
كاتبة ومدونة جزائرية
تحميل المزيد