لم أنسَ قَط هذا الموقف، لم يستطِع مرور الزمن محوه من ذاكرتي، أذكره مع كل مرة أسمع فيها أحدهم يناقش مدى أهمية عمل المرأة، أراها دائماً تقف منهَكة جداً حاملةً طفلتها بين ذراعَيها، مترجِّيةً صاحب العمل أن يتركها تأتي بالطفلة إلى العمل ولو ليومين فقط في الأسبوع؛ لأنها لا تستطيع تركها في الحضانة كل هذا الوقت، بينما يتجهّم وجه صاحب العمل ويرفض رفضاً قاطعاً، صارخاً فيها وفي الطفلة، مُعطياً إياها ساعتين فقط لترى من سيعتني بها وتعود للمحل، فتمشي مُكفكفةً دموعها مُغمغمة: "الرزق على الله".
لم تتسنّ لي الشجاعة لأذهب إليها وأسألها عن أحوالها أو ظروفها، أنا المرفهة التي لا تتحمل في الحياة سوى مسؤولية نفسها، لا تعتني بأطفال أو بمنزل ولا تحمل من الحياة سوى رغبتها في الإنجاز والنجاح وإنهاء الماجستير وإثبات النفس في العمل، كيف سأسألها إن كانت تحتاج إلى المال؟ وهل ستشعر بالخجل من عرضي للمساعدة؟ هل سترفضها؟ كنت أكثر جبناً من أن أقرر أن أتقدم لها بأي مساعدة؛ خوفاً على جرح مشاعرها، فآثرت الدعاء، ولَكم يعلم الله أني دعوت لها بكل صدق، وبظهر الغيب.
يطرأ هذا الموقف ببالي كلما أيقنت أننا قد دخلنا الألفية الجديدة، ولا يزال هناك أُناس يتناقشون على مدى أهمية عمل المرأة في مجتمعنا، وأليس من الأفضل أن تجلس في بيتها معزَّزة مكرَّمة، على رأي أحد الشيوخ، الذي بعثت له فتاة على حسابه بموقع طرح الأسئلة من دون معرفة شخصية السائل، قائلة إنها تشعر بالاكتئاب؛ لأنها لا تجد الشغف في دراسة التجارة، وترغب في تعلُّم شيء يدفعها لأن تعمل شيئاً ما بعد التخرج يحقق لها كيانها ويُشعرها بقيمتها كإنسانة؛ ليكون ردّه إنه من الطبيعي أن تشعر بالاغتراب والاكتئاب؛ لأنها في مكان ليس مكانها، تمارس دوراً ليس دورها، تضع الشارب واللحية بدلاً من أن تهتم بكيانها أنثى، القائم بشكل أساسي على تكوين أسرة وإنجاب أطفال وتعلّم طبخ المسقعة؛ حيث يجب ألا تلقي بالاً للتغريب المجتمعي الذي يحدث، فهي ليس منوطاً بها إثبات ذاتها خارج البيت، وليس لها أي علاقة بسوق العمل؛ لأن الله قد خلقها هشة، فمكانها البيت، والدور على الرجل؛ لأنه مكلف هو الإعمار والعمل خارج بيئة البيت والحِلل والبيض المقلي والشراب المقطوع.
استفزني عم الشيخ جداً، خصوصاً وسط انطلاق صيحات في منشورات تفسر طبيعة علاقة الأم العاملة بأطفالها؛ لأنه من الطبيعي جداً أن يلقي الأطفال بأمهاتهم العاملات، في دار المسنين حين يكبرن، تماماً كما رمتهم أمهاتهن في الحضانة، وخصوصاً وسط دعوات بعض الشباب لعودة المرأة لممارسة دورها كربَّة منزل حتى توفر فرص العمل التي تشغلها للشباب الذي يعاني البطالة؛ لأنها لا تحتاج للمرتب إلا لتصرفه على نفسها، من ملابس ومكياج، لكن الشباب في حاجة لتجهيز عش الزوجية وتحضير مبالغ وقدرها للشبكة والمهر والمؤخر والمقدم، استفزوني جميعاً حقاً، ليس لشيء إلا لأن رؤاهم جميعاً في منتهى السطحية والسفه، تتناول قضية عمل المرأة من منظور ضيق للغاية، غير واعٍ بواقع المجتمع المؤلم الذي نعيش فيه.
كنت أود حقاً أن يطَّلع عم الشيخ على رجال مجتمعي القوّامين على نسائهم، المتدينين بالفطرة؛ ليبحث في محكمة الأسرة عن كم أرملة أكل حق أولادها عائلة زوجها، وكم مطلقة يماطل طليقها في إثبات مرتبه الحقيقي للمحكمة حتى تأخذ نفقتها؟ كم من امرأة عاشت مع رجلها على الحلوة والمُرة، لكنه تطاول على مرتبها وأخذه كله لنفسه؟! كم من فتاة استنزفها شاب باسم الحب وجعلها تصرف عليه من مالها الخاص؛ لأنه متعثر بعض الشيء؟! أو كم فتاة مات عنها ذووها أو طردوها؛ لأنها لم تمتثل لأوامرهم وقطعوا عنها المال ليجبروها على الزواج أو على أي شيء لا تشعر بنفسها فيه؟ فتستقل مادياً لتتولى مسؤولية ذاتها وتكون صاحبة قرارها.
أود لو يأخذ عم الشيخ جولة حقيقية في واقع مجتمعنا الشرقي الجميل القائم على القوامة طبعاً، لكني أتوقع أن عم الشيخ سينفي كل هذا، ويقول إنها محض حالات قليلة وليست الغالبية الغالبة، وفساد الرجال لا يعني بالضرورة فساد النساء أيضاً، وحينها سنسمع كلام عم الشيخ طبعاً، سنكف عن اللحاق بشغفنا، ونترك وظائفنا، ونموت جوعاً.
وأما عن دار المسنين، فأنا لا أجد أحداً يخاطب الرجال ويطلب منهم أن يكفوا عن تحقيق ذواتهم، وأن يوفروا بعض أوقات فراغهم القائمة على ماتشات الكرة والجلوس على المقاهي بالمساعدة في حمل أعباء المنزل والاعتناء بالأطفال أو حل الواجبات المدرسية معهم أو توصيلهم للدروس والتمرين، لكن لا أحد يطالب الرجل بالتضحية مخافة الذهاب لدار المسنين، فيُطلَب دائماً من النساء أن يضحين ويتنازلن من أجل عدم الذهاب لدار المسنين، لكن الرجال لا يكونون ضحايا أبداً من أجل الاعتناء بالأطفال، أو مخافة دار المسنين.
ثم نأتي للعذر الأقبح من الذنب؛ اتهام الفتيات دائماً بأنهن ذات عقل لا يعي سوى المكياج والشوبينغ، هن لا يعملن من أجل أن يجهزن أنفسهن، أو يساهمن في شراء حاجاتهن، أو اضطلاع بمسؤوليات العائلة والمنزل، لكنني أعلم أن خوفهم الحقيقي لا يكمن في شعورهم بأن النساء يسرقن منهم الوظائف؛ بل خوفهم الحقيقي يكمن في أن تثبت المرأة جدارة في مجال عملها، أن تسرق منهم الأضواء، أن تنجح وتترقى في المناصب العليا، فلا يبقى لهم مكان.
العام 2017، وما زلنا نناقش أهمية عمل المرأة! ما زلنا نتساءل: هل لديها الحق في أن تأخذ الفرصة من الأساس؟!
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.