سحر الرواية العرفانية عند عبد الإله بن عرفة

عربي بوست
تم النشر: 2018/05/05 الساعة 10:58 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/05/05 الساعة 10:58 بتوقيت غرينتش

يقول الشيخ الرئيس ابن سينا في حديثه حول الزاهد والعابد والعارف: "المُعرض عن متاع الدنيا وطيباتها يخص باسم الزاهد، والمواظب على فعل العبادات، من القيام والصيام ونحوها، يخص باسم العابد، والمنصرف بفكره إلى قدس الجبروت، مستديماً بشروق نور الحقّ في سره باسم العارف، وقد يتركَّب بعض هذه مع بعض".

من هذا التعريف يمكن لنا تعريف علم العرفان بأنه المعرفة بالحق والمعرفة بعالم الوجود، وقد ظهر في البداية على شكل حركة صوفية يراد بها تربية النفس وتهذيبها، وفك العلاقة بين الإنسان والدنيا وزخارفها، ثم تطورت هذه الحركة فأصبحت أكثر تكاملاً تمتلك نظرية خاصة ورؤية محددة لله وللوجود وللإنسان، ولذلك فالعرفان لا يختلف عن التصوف، ولكنه يمثل أعلى وأسمى مراتبه، ويمكن النظر إلى هذين المصطلحين "التصوف والعرفان" بنظرة تتماشى ودرس الباحثين الإسلاميين للعرفان، وفق بُعدين يتمثل الأول باعتبارهما حركة ثقافية معرفية، والثاني باعتباره حركة اجتماعية وجدت في العالم الإسلامي بعد بعثة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم.

وانطلاقاً من ذلك يدل التصوف على البعد الاجتماعي للعرفان، في حين أن العرفان يختص بالبعد المعرفي الثقافي، فالعرفان أعلى من التصوف؛ لأن التصوف أسلوب وطريقة نابعة من العرفان، وهذا يعني أن العلاقة بينهما علاقة عموم وخصوص مطلق فكلّ عارف متصوف، وليس من الضروري أن يكون كلّ متصوف عارفاً.

ويسعى الروائي المغربي عبد الإله بن عرفة في مشروعه السردي العرفاني، وهو يخوض معركة الذاكرة الى التأسيس لما سمّاه "أدب جديد" ذا مرجعية قرآنية، يتكئ على مفهوم مختلف للأدب غاياته المعرفية التي يرى أن من أهمها إنتاج أدب معرفي يحقق تحوّلاً في وجدان القارئ ومعرفته وسلوكه، هذه الرواية ليست مثل أيّة رواية، إنها رواية مختلفة، لا هي رواية اجتماعية، ولا تاريخية، ولا تنتمي لأيّ نوع من الروايات التي دأب على قراءتها، أدب روائي جديد يهدف إلى إعادة الوصل مع ذاكرتنا وتاريخنا وموروثنا الثقافي والأدبي والفكري والعرفاني والتفكير والتجديد فيه استقطبت دلالات ما هو ديني وصوفي وفلسفي، وأطلقت لمتخيلها العنان من أجل تسريد عرفان المعنى ووجد الحضور ومسالك العارفين على نحو تأسيسي جديد يقطع مع ماضي السَّرد الروائي، منطلقاً مما يُسميه عوالم السرد المفتون بذاته.

إنّ الكتابة الروائية عنده تأتي في سياق يسميه بالمشروع الروائي العرفاني، ويراهن من خلاله على الخيال الخلّاق الذي ينهض باللغة من ركام الذاكرة، ويعيد الحوار مع التراث المضيء والجريح في آن واحد، إن هذا الأثر الكتابي هو ما سمّاه بـ"التخييل العرفاني"؛ إنّه تخييلٌ داخل الخطاب الروائي، تقوم عليه سيرورة بناء الجمالية العرفانية، وقد وظّفه عبد الإله بن عرفة واستثمره في رواياته كلّها ذلك أن ابن عرفة لم يكن روائياً محترفاً فقط، ولكن كان متصوفاً عارفاً يدهشك بما يعيشه في أعماقه، فهو ينفذ إلى القارئ من خلال الحديث عن أجواء المتصوف الروحي "الذي يرى ببصيرته ما لا يراه ببصره".

إن الرواية العرفانية تتميز بأنها تمزج بين سحر الكتابة وعمق التأمل وحيرة السؤال، وسحر الكتابة في مهارات السردية المتمثلة في التركيب بين تعدد الخطوط السردية وتعدد الأزمنة والأصوات، وتتوخى الكتابة النورانية إخراج القارئ من ظلمة التيه الفكري والجهل التاريخي والفوضى في المفاهيم والكتابة السردية العدمية إلى نور الوجد والعلم والكياسة والرشد، إنها مشروع فكري يختص في البحث بمجال التصوف، فنجدها تنهل من معين اللغة الصوفية وتراث الصوفيين، إنها أدب وجودي خاص أو قُل إنها أدب النخبة كونها تتطلب جهداً فكرياً بعيداً عن وجودية سارتر، وهي تتداخل مع الرواية التاريخية في عودتهما إلى التاريخ واشتغالهما على مستندات تاريخية تراثية سابقة، فكاتب الرواية العرفانية يركز على تلك المنافذ والفجوات والكوى والفراغات والبياضات التي تتخلل التاريخ، فالكاتب العرفاني يختلف عن المؤرخ في طريقة الصياغة وغايات البناء، والأديب الحق هو من يشهد بحضوره على أحداث التاريخ؛ حيث يخرجها من ماضويتها بنفخ روح الحياة فيها؛ لذا ظهر ما يسمى بأدب الحضور أو أدب المعنى الذي يعني التمكن في الحضور الوجودي زماناً ومكاناً، والذي يدل على كينونة الوجود، أو الوجود الحاضر المقابل للاوجود، الذي يسميه العارفون المسلمون بالحضرة أو الحضور، وهو أن يُدلي المؤلف بشهادة حضور، ولا يتأتى ذلك إلا بالقراءة المتبصرة النورانية الكاشفة للمعاني بالتأويل.

إن كاتب الرواية العرفانية لا يهتم بالشكل السردي إلا فيما يخدم قضيته التي يبني عليها الرواية، والتي تتمثل في الحلة العرفانية من العالم الواقعي المليء بالخيبات والمفاسد والانكسارات صوب المقامات العلوية التي تعتلي فيها الروح وتسمو، كما تسهم الرواية العرفانية في إعادة التأمل في الفكر الصوفي من خلال زوايا جمالية ومداخل فلسفية ورهانات حضارية لم تكن مطروحة فيما مضى، وبذلك تصبح الكتابة العرفانية مدخلاً جوهرياً لرفض الواقع وزعزعة سياقاته المنحرفة التي تزيغ عن القيم الروحية السامية.

"جبل قاف"، و"بحر نون"، و"بلاد صاد"، و"الحواميم"، و"طواسين الغزالي"، و"ابن الخطيب في روضة طه"، و"ياسين قلب الخلافة"، و"طوق سرّ المحبة: سيرة العشق عند ابن حزم"، إن هذه الأعمال الأدبية، على ما بينها من تفاوت في الاقتراب واختلاف في الأفق التسريدي وتمايز في رهانات الكتابة الإبداعية، تُسهم في إعادة التأمل في الفكر الصوفي من خلال زوايا جمالية ومداخل فلسفية ورهانات حضارية لم تكن مطروحة في أزمنة سالفة، وقد سبق أن سجلت ملاحظة أرى لزاماً هنا أن أذكر بها، وهي أننا في هذه الأعمال لا نستحضر "الحيوات" التاريخية للشخصيات الصوفية مناط التسريد، فـ"لسان الدين ابن الخطيب" عبدالإله بن عرفة في "ابن الخطيب في روضة طه" يتقاطع مع ابن الخطيب التاريخي في الاسم وبعض المعطيات التاريخية والمعرفية، لكنه ينفصل عنه في أفق الحضور وكيفية الاستحضار، سواء من خلال تخييل البياضات التاريخية في ترجمته، أو من خلال إعادة بناء فكره وتجربته الروحية من منظور أسئلة ورهانات واحتياجات عصرنا المختلف بشكل جذري عن السياق التاريخي الذي تبلورت فيه تجربة ابن الخطيب معرفة وعرفانا وحياة، ففي تصوّره للرواية العرفانية، يتحدث عبد الإله بن عرفة عن مفهومين رئيسيين؛ مفهوم الكتابة بالنور وعبر السفر فيه من عالم الواقع إلى عالم الخيال الخلاق، وبقدر ما يستلهم مصدره من القرآن وأسرار حروفه وتجلّيات بحره، ينكشف للذات العارفة من علوم ومعارف ما ينقل النص الروائي إلى ضفاف لا تتوقعها..

ومفهوم الحاضر الذي يستوعب الماضي والمستقبل معاً، فيعيد طرح قضايا سابقة وقعت في التاريخ؛ حيث يتفاعل مع التاريخ من زاوية العرفان مهما تنوعت العوالم التاريخية المستثمَرة في الرواية؛ كما يظهر ذلك من خلال طبيعة الشخصيات التي يتناولها بالتسريد (ابن عربي، الششتري، الغزالي…) من خلال التناول العرفاني حتى لبعض القضايا مثل مأساة طرد الموريسكيين من الأندلس في رواية "الحواميم"، لكنه ينأى بالرواية العرفانية عن تصنيفها ضمن الرواية التاريخية، وإن اعتمدت مثلها على خصائص محدّدة، مثل هيمنة السرد بصيغة الفعل الماضي، ومراعاة التسلسل الزمني للأحداث.

إن هذه الأعمال الروائية بقدر ما تعيد قراءة هذا الموروث الروحي من أماكن نظرية ومداخل أنطلوجية ورهانات معرفية وحضارية لم يفكر فيها من قبل في التعامل مع الموروث العرفاني الإسلامي، بقدر ما تطرح أسئلة جمالية جديدة على الإبداع الروائي تستوجب تجديداً في أدوات المقاربة النقدية بما يتلاءم والأفق الإبداعي والسردي الجديد الذي تتيحه مختلف أشكال التفاعل النصي مع أنماط الكتابة الصوفية.

إن ما يمكن ملاحظته إجمالاً على هذه الروايات أنها لا تراهن على فهم المتلقي فهماً حرفياً، فالكلمات والحروف في الروايات العرفانية إشارات إلى معانٍ أدق وأخفى تستثمر الموروث الصوفي من خلال وعي عميق لدلالاته المعرفية والجمالية، كما أن مفتاح هذه الروايات هو المعرفة الصوفية والمصادر المؤدية إليها من ذوق وكشف ومشاهدة وتجلٍّ، وما تثمر عنه من منازل ومقامات.

إن الهدف من هذه الروايات هو إخراج القارئ من ظلمات التيه والجهل إلى نور الوجد والعلم والكياسة، وإنشاء لغة نورانية؛ لأن الظلمة من عالم الفساد، والنور من عالم الصلاح… بهذه الملامح، توفر روايات ابن عرفة للقارئ متعة مزدوجة؛ متعة التعرف على عالم إبداعي عرفاني له الفرادة والتميز في فهم وممارسة الرواية والكتابة والأدب؛ ومتعة اختبار رؤى نقدية متنوعة في الاقتراب من تجربة ما تفتأ تصرح بضرورة الاقتراب المختلف منها لطبيعتها العرفانية والأدبية المخصوصة وعياً وممارسةً.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
منير تايه
باحث بالتاريخ والأدب
باحث بالتاريخ والأدب
تحميل المزيد