لم تكن شخصية "فرانك" التي قام بها الرائع "روبرت دي نيرو" في الفيلم الدرامي "Everybody's Fine" بنموذج غريب عنا، فهي قالب تقليدي جداً لشخصية الأب في أي أسرة، والتي ليس من الضروري أن تكون أميركية.
يبدأ الفيلم برجل عجوز مريض يُحضّر لاستقبال أبنائه في عطلة نهاية الأسبوع، يبدو كل شيء مثالياً إلى أن يتصلوا واحداً تلو الآخر معتذرين عن المجيء، أربعة أبناء يعانون بعد وفاة والدتهم، خاصة مع وجود تلك الفجوة الكبيرة بينهم وبين الأب.
يقرر الوالد أن يزورهم كلاً في ولاية مختلفة ليكتشف أنه لا يعلم عنهم أي شيء، فالأم كانت حصناً منيعاً بينه وبين الأولاد، فهي التي تستمع إليهم وهي التي تفتخر بهم في أي وضع كانوا، الأم التي تركض إليها باكياً فتربت عليك، تشد من أزرك، ثم تنهض لتصنع لك كعكعة البرتقال أو توليفة "المحشي" المفضلة لديك، أو ربما بيض بالعجوة والسمنة البلدي، يكفي أن تشم تسبيكة الصلصة الخاصة بها ليصبح كل شيء على ما يرام، الأم لديها قدرة خارقة لجعل أعظم المشاكل أهونها، وتحويل أحلك الظروف إلى أفضلها على الإطلاق، الأم هي الوحيدة التي تستطيع بث ثقتك بنفسك ودعمك، وقت أن يتخلى الجميع عنك، هي الحضن الوحيد المتوفر لديك هنا، هي القصة الخيالية التي ما إن ندخل إلى عالمها حتى يصبح كل شيء رائعاً.
"Super Secret Star"
أحدث أفلام الأسطورة الهندية "عامر خان" قد وُفّق كما لم يوفق فيلم آخر -حسب وجهة نظري- في وصف الأم كما يليق بها، امرأة نشأت في بيئة تقمع النساء، تُضرب وتُهان كل يوم، لا تستطيع أن تفعل أي شيء دون إذن زوجها المتعجرف، امرأة ضعيفة جداً وواهنة جداً يستفزك استسلامها وخنوعها، تريد أن تطلق عليها الرصاص ليرتاح الجميع وتتعدل الأوضاع، ولكن تلك المخلوقة البائسة كانت نافذة السعادة والأمل والطموح لولديها، هي التي لوّنت لابنتها حلمها وجعلت ابنها بذرة طيبة لرجل أفضل، هي ببساطة "أم"… هي المخلوق الوحيد الذي يستطيع أن يُذلّل كل الصعاب لخلق عالم أفضل لأبنائه، هي الحاجز المنيع ضد كل نفايات العالم.
"فرانك" لم يكن أباً شريراً، كما ستظن في بعض أجزاء الفيلم، والأبناء لم يكونوا "عاقين" أبداً، على العكس كانوا يحبونه جداً ويفتقدونه أكثر، ومن شدة حبهم له كانت علاقتهم به معقدة، فهم لا يريدون خذلانه أبداً فيكذبون عليه طوال الوقت، فالأب على أية حال لا يقبل إلا بأبناء مثاليين، لا يقبل بأن يفتخر بهم إلا كما تقول التعليمات وليس كما تقول قلوبهم، لا يستمع إليهم بقدر ما يتحدث؛ لذلك يؤثرون الصمت وإيهامه بأن كل شيء على ما يرام.
"فرانك" أب يحنّ إلى أطفاله الصغار، ففي كل مشهد يلتقي فيه بأحد أبنائه يتخيلهم أطفالاً يركضون إليه، يتحدث عنهم باعتبارهم صغاراً، يلتفون حول أنفسهم لحل مشكلة ما دون أن يخبروه حتى لا يشعر بالخذلان، من الطريف في الفيلم أنهم يتهمونه بالقسوة؛ لأنه لم يستمع إليهم كما يجب وكان يضغط عليهم في طموحاتهم وأحلامهم، هي تعتبر قسوة على أية حال، ولكننا كمجتمع عربي لا نعرف قسوة الآباء إلا من خلال الضرب المبرح والحرق بالشمع.
كلا الفيلمين يتحدث عن الأم، الأم عندما تكون حاضرة وعندما تكون غائبة، في كلتا الحالتين تختلف الحياة اختلافاً جذرياً، وفي كلا الوضعين يعيد الإنسان اكتشاف نفسه مجدداً واكتشاف من حوله.
سلام على كل أُم أينما حلت… وسلام على كل من يفتقد أمه… وسلام على كل أب يتعرف على أبنائه قبل فوات الأوان.. سلام علينا نحن الأبناء الذين غدونا في ليلة وضحاها آباء دون أن ندري ماذا علينا أن نفعل… هل عليّ الآن أن أتصل بأمي لتخبرني كيف أتصرف في تلك الفوضى التي تفتعلها ابنتي؟
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.