اليوم، وقبل كتابة هذه السطور بدقائق، أعلن حزب الشعب الجمهوري، أكبر أحزاب المعارضة في تركيا، مرشحه للانتخابات الرئاسية، وهو القيادي فيه محرّم إينجة.
محرم إينجة، الذي احتفل اليوم تحديداً بعيد ميلاده الـ54، خريج جامعة أولوداغ في بورصا بتركيا، وعمل في سلك التعليم قبل أن يُنتخب لعضوية البرلمان على قوائم "الشعب الجمهوري" في انتخابات 2002 و2007 و2011 و2015. القيادي، المستمر نائباً في البرلمان منذ 16 عاماً والذي شغل منصب نائب رئيس الكتلة البرلمانية للحزب، ترشح لرئاسة حزبه في مواجهة رئيسه كمال كلتشدار أوغلو مرتين، وخسر بعد أن كسب نحو ثلث الأصوات.
ورغم المؤهلات التي يبدو أن المرشح يتمتع بها، إلى جانب مهارات الخطابة التي يتقنها، فإن هذا الخيار أقرب لضمان فوز الرئيس أردوغان بالانتخابات الرئاسية وليس المعارضة. لِم؟
كان ثمة فرصتان للمعارضة، وخصوصاً "الشعب الجمهوري"، لهزيمة أردوغان في الانتخابات؛ الأولى تقديم مرشح توافقي وقوي وذي خلفية محافظة، قادر على كسب أصوات من الخزان الانتخابي لأردوغان و"العدالة والتنمية"، وكان هذا الاسم هو الرئيس السابق عبد الله غل، لكن هذا الخيار فشل وتراجع غل عن فكرة الترشح؛ لعدم توافق المعارضة عليه.
الخيار الثاني للمعارضة هو العمل على تأجيل الحسم في الانتخابات للجولة الثانية والتجمع خلف المرشح الذي سينافس أردوغان فيها. وهذا ما تعمل عليه المعارضة الآن، وهو أيضاً سبب كثرة المرشحين للانتخابات الرئاسية. ففي حين شهدت انتخابات 2014 ثلاثة مرشحين فقط، يبدو أن الانتخابات الحالية ستشهد 7 مرشحين على الأقل، حيث قدمت أغلب أحزاب المعارضة المعروفة (باستثناء الحركة القومية المتحالف مع العدالة والتنمية) مرشحاً منها، ومن ضمنها أحزاب صغيرة لا فرصة لمرشحها بالفوز.
والهدف هنا أن يسحب كل مرشح الحد الأقصى من الأصوات الممكنة من مختلف أطياف الناخبين الأتراك؛ لمنع أردوغان من حسم الانتخابات من الجولة الأولى، قبل أن يصطف الجميع خلف من سينافسه في جولة الإعادة. ولذلك، فقد كانت رؤية قيادة "الشعب الجمهوري" -أو جزء منها على الأقل- منذ البداية ترشيح شخصية "محافظة" نوعاً ما لتستطيع كسب أصوات الإسلاميين والمحافظين (أنصار حزب السعادة مثلاً) في جولة الإعادة إن تمت.
المفارقة أن محرّم إينجة قيادي من "الصقور" في حزب الشعب الجمهوري ومن الكتلة الصلبة للحزب ومعروف بشخصيته العلمانية-اليسارية إلى حد بعيد، وهو ما يعني صعوبة حصوله على أصوات الإسلاميين والمحافظين.
وبالنظر إلى الخريطة الأيديولوجية والفكرية والسياسية في تركيا، يمكن بسهولة توقُّع تقدُّم أردوغان بفارق كبير على منافسيه، وربما حسم السباق من الجولة الأولى، فيما سيكون المركز الثاني من نصيب إينجة غالباً (نسبة التصويت لحزبه تتراوح بين 20 و25%). ويعني ذلك أنه لو جرت جولة إعادة فستكون بين أردوغان وإينجة على الأرجح.
يرى "الشعب الجمهوري" أن أفكار إينجة الأتاتوركية قادرة على كسب أصوات القوميين (الحزب الجيد على الأقل)، وأن فكره اليساري وبعض مواقفه ستمنحه أصوات الأكراد اليساريين (حزب الشعوب الديمقراطي) في جولة الإعادة إن تمت، ويرون كذلك أنه قادر على كسب أصوات المحافظين باعتباره "يصلي الجمعة والعيد"، وفقاً لبعض التقارير التي صدرت عن أوساط الحزب.
والحقيقة أن هذا التقييم الأخير مبالَغ فيه إلى حد بعيد، ولو قُدِّر للرجل أن يكسب أصوات القوميين واليساريين الأكراد، فمن الصعب عليه جداً كسب أصوات الإسلاميين والمحافظين، وقد بدأت منذ ساعاتٍ بعض صوره "الصادمة" للكتل المحافظة بالانتشار على مواقع التواصل الاجتماعي، فضلاً عن بعض مواقفه وتصريحاته السابقة التي ستجد طريقها بالطبع للصحافة.
وهكذا، سيكون من الصعب جداً على إينجة كسب ثقة المحافظين من المعارضة، فضلاً عن أن يكون له أي تأثير على الكتلة المتحفظة والصامتة داخل حزب العدالة والتنمية، ما يعني فوزاً شبه أكيد لأردوغان في الجولة الثانية إن لم يكن من الجولة الأولى.
لماذا إذن رشح حزب الشعب الجمهوري إينجة؟ أليس مدركاً لهذه المعادلات؟
يمكن ذكر 3 أسباب رئيسة لهذا الترشيح:
الأول: الحسابات سابقة الذكر بخصوص أصوات القوميين واليساريين الأكراد والمحافظين.
الثاني: اتجاهات كوادر وأنصار الحزب الذين رفضوا في معظمهم فكرة ترشيح شخصية من خارج الحزب وأرادوا مرشحاً من "قلب" الحزب ومعبِّراً عن أفكاره وسياساته. ومن ثم، ذهبت قيادة الحزب لفكرة مرشح يضمن أصوات أنصاره على الأقل، بحيث يمكن أن يبقى للجولة الثانية ويعمل حينها على أصوات باقي أحزاب المعارضة، في حين كان يمكن لمرشح آخر أن يخسر أصواتاً حتى من داخل حزبه؛ ومن ثم قد لا تبقى له فرصة للجولة الثانية. وقد أظهرت فكرة تقديم مرشح توافقي محافظ فشلها مع أكمل الدين إحسان أوغلو في 2014، حين لم تصوّت نسبة معتبرة من ناخبي وأنصار "الشعب الجمهوري" له.
الثالث: وهذا تقييمي الشخصي على أي حال، أن إينجة كان الصوت الأبرز والأعلى في مواجهة كلتشدار أوغلو داخل الحزب وترشَّح ضده مرتين، وكان خطابه الرئيس أن كلتشدار أوغلو (والحزب) يخسران الانتخابات تلو الأخرى أمام أردوغان و"العدالة والتنمية"، وأن هذا كافٍ جداً لتغيير القيادة.
بترشيح إينجة، يضرب كلتشدار أوغلو 4 عصافير بحجر واحد، فيُظهر وجهه "الديمقراطي" بترشيح منافسه السابق الذي وجه له أقسى الانتقادات، ويكسب الجناح الذي يمثله إينجة في الحزب (الثلث)، ويملك منّة ويداً عليا على إينجة مستقبلاً، كما أن خسارة الأخير المتوقعة أمام أردوغان ستسقط من يده ورقة الضغط على كلتشدار أوغلو، حيث يستويان في موضوع الخسارة.
إذن، الحسابات الداخلية في حزب الشعب الجمهوري كانت وراء اختيار إينجة وليس حسابات تجميع المعارضة وهزيمة أردوغان كما يفترض، وسيكون لهذا ثمنه في صناديق الاقتراع باعتقادي، أي فوز أردوغان المريح وربما من الجولة الأولى في الانتخابات الرئاسية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.