مثل طفل صغير، وُلد وكبر في إحدى الحارات العشوائيّة المنتشرة في واحدة من عواصم دول العالم الثالث، ولم يخرج منها قطّ حتى عمر العاشرة، تأخذه في خروجه الأول من هذه الحارة إلى ديزني لاند.
ينبهر هذا الطفل بالأضواء والألعاب الكثيرة، ينبهر بالأشكال المختلفة التي يراها للمرة الأولى، لا يفكر بشيء خارج هذا المكان. الكون ينحصر هنا.. الآن. لا يملك كلمات يصف بها ما رأى لأصدقاء مدرسته حين يعود، لا يعرف كيف يخبر والديه عن هذه التجربة. مثلما يشعر هذا الطفل أشعر حين أدخل إلى قاعة السينما.
مئات المرات دخلت إلى صالات السينما، صالات صغيرة وأخرى كبيرة، صالات في حارات فقيرة في مدن منسيّة وأخرى في عواصم عالميّة، شاشات موضوعة بسرعة في غابة ما أو في مدرسة أُقيمت على عَجَل في مخيم لاجئين أو شاشات مهرجانات دوليّة، لا فرق بين صالة وأخرى، ولا فرق بين شاشة وأخرى، كلّه سحر، كلّها كما ديزني لاند لذلك الطفل. هذا الظلام الذي يلّفُ القاعة قبل خروج الضوء من الشاشة يسحرني. لا أعرف إن قرأت هذا في مكان ما أو رأيته في أحد الأفلام أو سمعته من أحد المخرجين، هذه الفكرة تدور في رأسي كلّما هممت بالدخول إلى قاعة السينما، هذه الفكرة التي تشبّه ظلام قاعة السينما بظلام رحم الأم، وتشبّه انبعاث الضوء من الشاشة بالولادة والفيلم هو الحياة.
تبهرني هذه الأضواء التي تخرج أمامي، هذه الألوان وأشكال الممثلين والممثلات، هؤلاء الذين يتحركون ويتحدثون ويرقصون ويبكون ويضحكون داخل هذه الشاشة، هؤلاء الذين يجعلوننا نتفاعل مع حركاتهم، نهز أكتافنا في مقاعدنا حين يرقصون، نحرك شفاهنا حين يغنون، نبكي معهم، نضحك بصوت عالٍ حين يقولون شيئاً مضحكاً، هذا سحر، لا أملك كلمات أخرى للوصف، إنّ هذا سحر.
كلّ أنواع السينما تسحرني، الوثائقيّة، التجريبيّة، الروائيّة، الأفلام الطويلة، الأفلام القصيرة، الأفلام متوسطة الطول، كلّ أنواع السينما إن كانت حسنة الصنعة تسحرني. يعجبني مدير التصوير والإضاءة الذي يبهرني بحركة كاميرته وبالألوان التي يخلقها، أحب الذي يعمل على مونتاج الفيلم وكيف يقفز بنا من مكان إلى آخر، أستمتع بالموسيقيّ كيف يطير بنا مع موسيقاه ويلعب بمشاعرنا، أغار من المخرج الذكي بخياراته والقادر على سرقتنا من هذا العالم إلى عالمه الذي خلقه لنا.
مشاهد خالدة في ذاكرتي، شاهدتها هناك في ذلك المكان الساحر، أعدت تمثيلها في غرفتي حين كنت وحيداً، أردت أن أصبح ممثلًا يستطيع تمثيل مشهد مورغان فريمان في فيلم "The Shawshank Redemption" حين يتحدث مع مدير السجن. أعدت تمثيل مشهد موت ميل جيبسون في فيلم قلب شجاع عشرات المرات، بكيت مع جوليان مور حين كانت مصابة بألزهايمر وأضاعت طريق الحمام في فيلم "still Alice". تألمت كثيراً ولم أستطِع النوم بسهولة في الليلة التي شاهدت فيها السيد الأبيض يجلد العبد الأسود في فيلم "Twelve years a slave". يا إلهي كم بكيت حين شاهدت فيلم ماء الفضة الوثائقي. إلى الآن أقلد روبين ويليامز حين يقول: Goooooooooooooooood morning Vietnam. والقائمة تطول وتطول.
أفلام من ألمانيا وأميركا وإيطاليا وفرنسا، أفلام من الهند وباكستان وإيران، أفلام من الأرجنتين والبرازيل والمكسيك، أفلام سوريّة وأفلام مصريّة، أفلام من كلّ مكان، في كلّ مكان سحر. السينما هي التي تعرّفني على ثقافات ومشاكل مجتمعات بعيدة، قد لا ألتقي بها في حياتي. شاشة السينما هي عيني على هذا العالم.
الآن وأنا أكتب أتذكر أحد أفلامي المفضلة "Amélie"، هذا الفيلم الفرنسي الذي شاهدته مرات كثيرة لا أذكر عددها. زرت باريس للمرة الأولى بعد أن شاهدت هذا الفيلم بثماني سنوات على الأقل، مشاعري مختلطة تجاه باريس، لا أحبها ولكن لا أكرهها، لكن المثير في الأمر أنّني وحتى الآن، بعد أكثر من عشر زيارات إلى باريس، ما زلت أرى الباريسيين كما رأيتهم في هذا الفيلم. أراهم كما لو عيني كاميرا الفيلم. أرى الناس في شوارع باريس كما لو كانوا ممثلين في الفيلم. أقرّب الكاميرا إلى وجوههم وأتلاعب بحركتها، الوجه in focus والخلفية out of focus. يا لَه من فيلم جميل ويا لها من فتاة."Amélie Poulain" كانت فتاة أحلامي لفترة ليست قصيرة. المفارقة أنّ معظم أصدقائي الفرنسيين لا يحبون هذا الفيلم.
وودي آلن، أحد المخرجين المفضلين لديّ، بعض الناس يكرهه وبعضهم يحبه، لا مشكلة في هذا. وودي آلن جعلني أحب مدناً، في فيلمه مانهاتن جعلني أقع في حب نيويورك التي لم أرَها بعد. وودي آلن صاحب فضل عليّ بفلسفته وبذكائه. أحلم أن أستطيع صنع فيلم ذكي كأفلام وودي آلن.
السينما سحر.. السينما حياة.. وأكاد أقول إنّ الذي لا يعرف السينما ومعنى دخول ظلام هذه القاعة لا يعرف ما هي الحياة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.