لأن الرهان على الحب يجعلنا نخسر دائماً!.. عن صندوقي وقصتي

عدد القراءات
1,740
عربي بوست
تم النشر: 2018/05/03 الساعة 08:44 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/05/03 الساعة 08:44 بتوقيت غرينتش
Unhappy woman hugging her boyfriend

دخلت إلى ذاك القبو المنسيّ، ونفضت الغبار عن ذاك الصندوق القديم، ولأول مرة بعد مدة طويلة تجرّأت على فتحه بعد أن تيقّنت أنني قادرة على أن أصمد حينما أدخل بكلي في دوامة ما مضى وأسلّم ذاكرتي وحتى قلبي للأشياء التي أخفيتها بي وما كنت لها ناسية.. كنتُ بحاجة ماسة إلى القليل من القوة؛ لأستعيد تلك الأحداث التي بلا شك سرقت منّي أشياء ما كانت لتعوَّض بأخرى.

أنا لم أصل إلى حيث ما وصلت إليه إلا بعد أن تفاقمت أحزاني، واتسعت جراحي، وكبر ألمي، وتعددت خيباتي، وكثرت خساراتي، فتحت ذاك الصندوق الذي شعرت معه، وكأنني أفتح قلبي، وانتابني إحساس بأن قلبي يتمزق وهو يستعيد هذا من جديد، كان عليَّ أن أواجه ذاك الماضي الذي لطالما أضعفني، ولكي أواجهه احتجت إلى الكثير من الوقت، وقت أخذ من عمري ما يكفي، فتحته فتطاير الغبار على وجهي، وتأذّت عيناي، وتهاطلت الدموع حينها، وكأنني كنت بحاجة لأي سبب يمنحني العذر حتى أبكي بكاءً استجمعته لسنوات، أنا أعلم أن الأذى أصاب قلبي وليس عينيّ، ولكنني اغتنمت الفرصة لأمارس حقي في البكاء، فبكيت كالطفلة، ولم أتوقف، ولم أحرم نفسي من هذا الحق.

سمَّيت ذاك الصندوق "صندوق الهلاك"؛ حيث وضعت فيه كل ما قد يذكّرني بمن تسبب في هلاك قلبي، وجدت ذاك الدفتر مجدداً، دفتراً كان يرافقني في حياتي إلى أن أعلنت خصومتي عليه، كان بمثابة الرفيق الذي يُصغي ولا يتكلم، كنت أحشوه بكلام جاد وأحياناً بلا معنى، وتارةً بأشياء أسعدتني وتارةً بأشياء أحزنتني، كنت أكتب فيه كل ما يجول في خاطري وكل ما يحرق قلبي، كتبت فيه عن أصدقائي وعن أهلي، عن شجاراتي مع إخوتي وعن صراخ أبي، عن انزعاج أمي وحديثي مع جارتي، عن أول حب وقعت فيه وعن عاشر حب تورطت فيه، كتبتُ فيه عني وعن غيري وكان الأقرب من كل المقربين، كان جامعاً شاملاً لكل أسراري، ولكنني تخليت عنه؛ لأنه يذكّرني بكل ما حاولت تخطّيه، كان يضم كل تفصيلة قد تزعجني وتعيدني إلى الوراء عشرات السنين، فتخليت عنه بكل قسوة، وما قسوتي حينها إلا نتاج عن قلب مكسور وحزين.

وها أنا فتحته الآن ورائحة الحنين تفوح منه، فتحته قائلاً وهو الشيء الذي لا يتكلم، إنه "اشتاق"، كان الصاحب في ضيقي والأنيس في وحدتي والمستمع لثرثرتي والصبور في غضبي، كان دفتري الأول ومن بعده أقسمت أنني لن أستبدله بآخر، فتحت دفتر أسراري وفتحت معه جراحي، قرأته حرفاً حرفاً، كلمةً كلمةً، جملةً جملةً، سطراً سطراً، قرأته كله وأعدته بدل المرة ألفاً، شاهدت فيه ماضياً مضى ما زال يعيش بذاكرتي أبى أن يزول، وشعرت حينها بأن مشاعري ما زالت ثابتة ومستقرة.

لمحت في الصندوق هدايا كانت في السابق تملأ قلبي بالفرح، ولكنها صارت مصدراً للتعاسة، لمحت بجانب كل هذه الذكريات علبة حمراء ما زالت تحافظ على لونها وجمالها فانهمرت بالبكاء مرة أخرى، وتيقنت أن قلبي المسكين ما زال على قيد حكاية حب طويلة الأمد، كم بنيت على تلك العلبة أحلاماً لا حدود لسقفها، وكم كانت لحظة تقديم تلك العلبة لحظة آسرة أسعدت قلبي من أعماقه، كيف لي أن أنسى لحظة كتلك؟ حينما قال: "أتقبلين أن تكوني زوجتي الأولى والثانية والثالثة والرابعة والأخيرة؟".

لقد كان أمنيتي الوحيدة، أمنية هي كل ما أرجوها من الدنيا، فتحت العلبة وأخذت الخاتم ووضعته في أصبعي وسرعان ما قمت بنزعه ورميه في الأرض بعيداً عني، شعرت بحنيني إليه، حنين أكرهه وألعنه، كنت قد بدأت عيش حياتي وتعوّدت على كونه غير موجود، احتجت إلى وقت طويل وسنين عديدة وأشخاص جديدة لأستعيدني وأعود إلى حياة تخليت عنها بعدما أذاقتني طعم المرارة، ومنحتني كل أنواع الغدر، قبرته بداخلي وطويت صفحته ظناً منّي أنني سأنساه مع الزمن، ولكن مر الزمن وها أنا كما أنا لم يحدث أن نسيته.

ظهر مجدداً وأحدث بداخلي فوضى عارمة، وغيّر نمط حياتي وأعادني إلى الماضي؛ حيث قام بإيلامي والتخلّي عني، كان كالجميع، فكل من عرفتهم خذلوني بطريقة أو بأخرى، ولكن خذلانهم لي يهون وخذلانه لي لا يهون، ولن يهون، أن أحبه بشدة، وأن أغفر له ما فعله بي بدافع الحب تلك كانت أصعب المعادلات، فلم أقوَ ولم أقدر على الغفران؛ لأن من يتمكن اليوم من دس الوجع في قلوب الأحبة بلا رحمة سيوجعها غداً أضعاف المرات، ولكنه لم يوجعني فحسب، بل قتلني، ومع هذا فقلبي ما زال يحبه، ولكنه لا يرجو عودته.

قفلت ذاك الصندوق بسرعة بعدما أخذني لتفاصيل الماضي، وخرجت وأنفاسي تصعد منّي بطريقة متقطعة، وكأن شبح الموت يطاردني، تركت كل شيء هناك في ذاك القبو البارد والموحش مخافة منّي أن أغرق وأحنّ له أكثر، ثم عدتُ إلى غرفتي؛ لكي ألملم أفكاري المبعثرة، فوجدتني عالقة بين ماضٍ مضى ومستقبل قريب ينتظرني، عقلي في مكان، وقلبي اختلفت وجهته.

حينما خرجت من ذاك المحل؛ حيث كنت أقيس فستان زفافي لمحته أمامي بعد أن كدت أتعثر بسبب قلة تركيزي، فكان هو منقذي وبطلي الذي أنقذني من الوقوع على الأرض قبل أسبوع من زفافي، رفعت عيني لأشكره على مساعدته لي، فإذا بي أجده هو ولا أحد غيره، تبادلنا التحية فلمحت الخاتم بإصبعه ولمح الخاتم بإصبعي، وخاتمي ليس هو صاحبه، وخاتمه لست أنا صاحبته، وكلاهما لا يحمل اسم كل منا.

أسوأ ما قام به أنه فرّط بي ومنحني لغيره، أعلم أنني أنا مَن تخليت عنه حينها، ولكنه تخلّى عني قبلها بأفعاله التي لا تغتفر.. لو أننا لم نتصادف ذلك اليوم ما كنت لآتي محملة بهذا الكم من الحنين إلى صندوق أعادني إلى الماضي معه، ولكنه ظهر في اللحظات الأخيرة ليقلب حياتي رأساً على عقب.. لا أعلم هل الخاتم الذي في إصبعه هو نتيجة لحب حقيقي صادفه من بعدي، ولكن جلّ ما أعلمه أن خاتمي ما هو إلا نتيجة لقرارات عقلي التي همّشت حضور قلبي وكأنه ليس منّي، بعد أن رأيته خفت أن أتزوج بالرجل الذي لم يتخلّ عن حبه لي، فأصبح خائنة بتفكيري في الرجل الذي أحبه بكل جوارحي، وانتابني الخوف أيضاً إذا حدث وتراجعت عن قرار زواجي أن أسبب الأذى لقلب لا يستحق الأذية، ولكنني عالقة بين ماضٍ لم يمضِ وبين حاضر لا أشعر به.

استغرقت بتفكيري أسبوعاً بكامله وفي الثواني الأخيرة حسمت قراري، وأنهيت الحكاية بمنتهى الحقارة قبل أن تأخذ منحى آخر فأتورط. رسالة هاتفية واحدة اعتذرت فيها عن زواج لن يكتمل، عن علاقة لا أستطيع الاستمرار فيها، وعن عقد سيكون حبلاً لمشنقتي، وعن قلب لا أستحقه وحب لا يليق بي.

تأسفت له وقلبي على وشك الانهيار قائلة: "سامحني أرجوك، لا أستطيع أن أقبل هذا الزواج، لا أستطيع أن أفعل هذا بنا" برسالة هاتفية ليس إلا حطمت قلب رجل لا ذنب له سوى أنه أسكنني في جناحه الملكي الموجود بين أضلعه.

لم أكن أنوي العودة إلى حبيب الماضي الذي اكتشفت أنه ما زال يحمل لقب الحبيب الأبدي، هو لم يكن سوى جرح عالجته بالغش والتحايل، وما أن ظهر من جديد حتى انفتح جرحي مجدداً واتسع، اتسع بعدما رأيته يسير في حياته التي خطط لها مع غيري وصارت غيري هي زوجته الأولى والثانية والثالثة والرابعة والأخيرة،

أما عنّي فأنا لم أعد كذلك، ولا أستطيع أن أكون له ولا حتى لغيره؛ لأن وجودي مع أحد آخر بلا إحساس هو خيانة لرجل لست مغرمة به، فأعيش محتقرة لنفسي كل يوم وفي كل لحظة.

ربما التقينا مجدداً؛ لأعي أنني ما زلت أحمله كخنجر في قلبي يلازمني وجعه للأبد، فليس كل ما نحبه نحصل عليه، وليس كل ما نحصل عليه دليلاً على حبنا له، أنا وهو لم نكن سوى حبيبن ومن ثم افترقنا، واصل حياته حتى عثر على حب آخر استنجد به وبقيت أنا على قيد حبه أغرق فيه، في حين أن هناك شخصاً آخر يحبني حباً جماً، ولكنني لا أحبه حتى كذباً. الحب شقاء لا نهاية لشقائه.. الحب عبارة عن معادلة صعبة، والاستثناء أن تكون هذه المعادلة عادلة ومنصفة دون أن تسبب الوجع لأحد، ولكن مهلاً! حب بلا وجع! كيف ذلك وهما وجهان لعملة واحدة؟ حتى الاستثناء هنا مستثنى ولا وجود للعدل والإنصاف في الحب.. فدائماً هناك مأساة، دائماً هناك يا غالب أو مغلوب، كما لو أن الأمر برمّته ليس سوى معركة دامية للقلب ومرهقة للشعور، والانتصار سيكون بأفظع الطرق على حساب خسارة موجعة للطرف الآخر.

الحب هو الرهان الذي تراهن عليه في كل مرة، فما الذي يحدث بعدها؟

بكل بساطة تخسر الرهان.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
نسرين علول
طالبة وباحثة
تحميل المزيد