حدثني منذ أيام، وقال لي: أنا طبيب مصري أعمل في السعودية منذ أكثر من 15 سنة، وقررت العودة نهائياً لمصر، وطلب مشورتي في أن أدله على الأسلوب الأمثل لاستثمار "تحويشة عمره".
سألته لأعرف: ولم العودة إلى مصر في هذا التوقيت؟ فقال إن الحياة في المملكة باتت مكلفة جداً ولا يقدر عليها سوى أصحاب الرواتب العالية، أمثال العاملين في شركات النفط والبنوك، حتى إن العاملين في مجالات الطب والصيدلة والتدريس وشركات السياحة والعقارات باتوا "غلابة" أمثالنا، بعد أن ضربت موجة من الركود وغلاء الأسعار والتكلفة معظم السلع والأنشطة الاقتصادية والمدارس والمستشفيات والمواصلات.
سألته مرة أخرى: هل أنت حالة خاصة؟ فقال لي: هناك آلاف من المصريين الذين اتخذوا قرار العودة نهائياً، وقاموا بالفعل بإعادة أسرهم إلى مصر، تمهيداً للعودة بشكل نهائي.
سألته السؤال المطلوب حتى أجيب عن سؤاله الأصلي: كم تبلغ تحويشة العمر؟ فقال: 30 ألف دولار؟
قلت له: 30 ألفاً فقط، بعد كل هذه السنوات في الغربة، فقال باستغراب: أهالينا في مصر يتخيّلون أن كل مصري مغترب في دول الخليج لديه بئر بترول يغترف منه كيفما يشاء من أموال ودولارات، أو أنه يعمل لدى ثري خليجي يوزّع عليه الأموال ليل نهار. المرتبات هنا متدنية، والمعيشة باتت صعبة، فقلت له: عندك حق.. كان الله في العون.
تركني صاحبي لأفكر في مستقبل عودة العمالة المصرية من دول الخليج، التي تزيد على مليوني عامل، لأسأل أسئلة منطقية منها: ما الذي أوصل دول الخليج الثرية إلى هذه الحالة، وفي حال عودة كل هؤلاء إلى أوطانهم، هل هناك فرص عمل متاحة لاستيعابهم وأسرهم أو حتى استيعاب أموالهم في مشروعات تدر عليهم عائداً مناسباً؟ وإذا لم تكن هناك فرص عمل متوافرة، ما هي الخطة التالية لهؤلاء؟ أين المحطة المقبلة لهم في ظل نفاد فرص العمل المتاحة في بلادهم والخليج؟ هل يبحثون مثلاً عن فرصة عمل في إيران أو دولة أفريقية؟
بالطبع من الصعب حدوث ذلك لأسباب عديدة، منها عنصر اللغة وتكاليف السفر مع عدم وجود خطوط طيران منتظمة أو مباشرة، بالإضافة إلى معاناة هذه الدول من البطالة والغلاء أصلاً.
قديماً، كان حلم الملايين في الدول العربية المختلفة هو الهجرة إلى الدول العربية النفطية بالغة الثراء، وفي مقدمتها دول الخليج والعراق وليبيا، وكان العثور على فرصة عمل داخل دول الخليج مثلاً هو حلم ملايين الشباب العرب الحالمين بحياة أفضل، أو على الأقل الهروب من طوابير البطالة التي تلاحق معظم خريجي الجامعات والمعاهد.
ومن هنا تدفّق الملايين نحو الدول النفطية، حاملين معهم حلم تكوين ثروة والزواج، وبناء منزل أسمنتي من طوابق عدة بدلاً من الطوب اللبني، وربما شراء قطعة أرض وسيارة وجرار زراعي في وقت لاحق، مع إيداع مبلغ في أحد البنوك أو البريد يتّكئ عليه عندما يتقدم في العمر، أو على الأقل إنجاز المهمة "المقدسة" وهي تعليم الأولاد ثم تزويجهم.
وظل العراق مثلاً ملاذاً للعمال العرب الباحثين عن فرصة عمل، خاصة خلال فترة حكم صدام حسين، إذ تدفق على هذه الدولة النفطية ملايين المصريين والسودانيين والأردنيين وغيرهم، واحتضنت السعودية ملايين العمال العرب، خاصة من مصر والسودان واليمن والمغرب وتونس وموريتانيا، وكذلك كان الحال في دول خليجية أخرى، في مقدمتها قطر والكويت وسلطنة عُمان والإمارات، وإلى حد ما البحرين.
واستضافت ليبيا في فترة حكم القذافي ما يقرب من مليوني مصري، بالإضافة إلى ملايين العمال من السودان وتونس والجزائر والدول الأفريقية، خاصة من دول جنوب الصحراء.
ولعبت هذه العمالة الوافدة دوراً كبيراً في نهضة الدول النفطية، سواء العمرانية أو التعليمية، خاصة في فترات الطفرة، التي شهدت فيها أسعار البترول قفزات تدفقت على أثرها مئات المليارات من الدولارات على خزن هذه الدول وأرصدتها في الخارج.
وخرج العراق من قائمة أكثر الدول العربية استقطاباً للعمالة العربية في فترة ما بعد سقوط صدام حسين والاحتلال الأميركي للعراق في عام 2003 وهيمنة إيران على المشهد السياسي والاقتصادي داخل البلاد.
كذلك خرجت من القائمة ليبيا في فترة ما بعد سقوط معمر القذافي واندلاع الحرب الأهلية، إذ لعبت عوامل الصراع وعدم الاستقرار السياسي والأمني واستهداف العمالة الوافدة، خاصة المصرية، دوراً كبيراً في هروب هذه العمالة وعودتها إلى بلدانها.
وبقيت في قائمة استقطاب العمالة العربية دول الخليج، لكن المؤشرات الأخيرة تؤكد أن معظم هذه الدول باتت طاردة للعمالة الموجودة فيها، وأن أغلب هذه العمالة باتت تعاني من ارتفاعات في الأسعار، خاصة الوقود والرسوم وتكاليف السفر، وخاصة في فترة ما بعد حصار قطر، وتطبيق حكومات هذه الدول سياسة توطين العمالة الوطنية.
ولنضرب مثلاً بالسعودية، باعتبار أنها أكبر الدول العربية والخليجية استقبالاً للعمالة الوافدة، إذ يوجد فيها 12.2 مليون عامل، وفقاً لإحصائيات رسمية، وهو ما يمثل 37% من إجمالي عدد السكان، فقد وجد العامل الوافد نفسه مؤخراً أمام موجة من ارتفاعات في الأسعار، عقب فرض ضريبة القيمة المضافة بنسبة 5% على السلع والخدمات، وفرض الضريبة الانتقائية، وزيادة أسعار الوقود بنسبة زادت في أحدث زيادة جرت بداية شهر يناير/ كانون الثاني الماضي عن 120%، وزيادة فواتير الكهرباء والمياه، كما تم فرض رسوم شهرية على الوافدين وعائلاتهم، وبعدها فرض رسوم كبيرة على الشركات التي تفضل توظيف العمالة الوافدة على حساب العمالة الوطنية، مع ملاحقة العمالة المخالفة.
وإلى جانب هذه الخطوات قامت الحكومة بإحلال العمالة السعودية محل الوافدة، بعد أن زادت البطالة إلى أرقام قياسية في أغنى بلد عربي وأكبر منتج ومصدر للنفط في العالم ويملك احتياطيات من النقد الأجنبي تبلغ نحو 500 مليار دولار.
كما أن قرار الحكومة السعودية تطبيق برنامج الخصخصة وبيع مئات من الشركات والمدارس والمستشفيات والمطارات والمطاحن والأندية الرياضية سيخلف وراءه الاستغناء عن آلاف العمال العرب والأجانب.
هذه الأعباء دفعت مئات الآلاف من العمالة الوافدة للهجرة العكسية والعودة إلى بلادها، والأرقام الرسمية الأخيرة تقول إن القطاع الخاص السعودي فقد نحو 480 ألف وظيفة خلال عام، كما أظهرت خروج 585.5 ألف عامل من القطاع الخاص من وظائفهم خلال العام الماضي 2017.
وفي وجود خطة سعودية للاستغناء عن نحو 8 ملايين من العمالة الوافدة غير المهرة، خاصة في قطاعات البناء وتجارة التجزئة وخدمات المنازل والحرف وورش الصيانة والتصليح، فإن التوقعات تشير إلى مغادرة الملايين المملكة خلال السنوات المقبلة، وفي مقدمة هؤلاء العمالة المصرية ثم السودانية واليمنية، إذ تمثل الجنسيات الثلاث الحصة العربية الكبرى من عدد العمالة في المملكة.
العمالة في دول الخليج، وهم بالملايين كما قلت، باتت مهددة، فالغلاء أمامهم والبطالة في بلدانهم خلفهم، وعليهم أن يختاروا ما بين بدائل كلها مرة، الحياة تحت ضغوط معيشية أو العودة إلى بلادهم والدخول في عراك أيضاً مع ارتفاع الأسعار وضعف فرص العمل.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.