فيديو قصير من دقيقتين في مدرسة ابتدائية من مدارس حمص العدية يختزل الكثير من المعاني.
ولتفسير تلك المعاني، لا بد من توصيف المشهد شكلاً ولغة؛ للوصول لمضمونه الخطير.
في باحة المدرسة الواسعة يصطف التلاميذ أحد عشر صفاً في أرتال متوازية، رتلان لكل صف، في كل رتل 15 إلى 20 تلميذاً، ما يجعل عدد طلاب المدرسة يتراوح ما بين 300 إلى 400 طالب وطالبة.
يقف على رأس كل صف عريف أو عريفة.
يلبس الجميع هنداماً موحداً.
يقف في مواجهة جميع الفرق عريف الوحدة؛ والفرقة هنا هي المسمى الحزبي البعثي للصف، فيما الوحدة هي مسماه للمدرسة.
يقف الجميع على أهبة الاستعداد ليقوم عريف كل فرقة بإعلام عريف الوحدة بجهوزية فرقته لتحية العَلم المسائية.
ثم يتتالى مشهد العرفاء وهم يقومون بذلك، في مشهد عسكري خالص، بضربة قدم مزلزِلة، وتقدّم للأمام وتحية عسكرية بصوت جهوري: فرقة الشهيد "فلان الفلاني" جاهزة لتقديم تحية العَلم المسائية الرفيق عريف الوحدة. ثم تراجع للخلف، يردّ بعده عريف الوحدة التحية العسكرية بمثلها مجيباً: شكراً رفيق أو شكراً رفيقة.
تتالى التحيات 11 مرة، يستطيع من يركز على التلاميذ أن يتبين بعض أسماء الفرق، ومنها حسب التلاميذ: فرقة الشهيد باسل الأسد، والشهيد يوسف العظمة، والشهيد أحمد ياسين، والشهيد ناجي العلي، والشهيد محمد الدرة، والشهيد عز الدين القسام.
بعد ذلك، يتأهب الجميع لتحية العَلم بترديد الشعار، فيهتف عريف الوحدة: أمة عربية واحدة.. ويأتيه الجواب الهادر: ذات رسالة خالدة.
فيردُّ مطالباً: أهدافنا. ويجيب الجميع: وحدة.. حرية.. اشتراكية.
بعد ذلك، وفي مشهد شمولي مخيف، يردد عريف الوحدة منادياً: ندااااء. فيرفع الجميع أذرعهم اليمنى للأعلى بشكل أقرب ما يكون شبهاً بالتحية النازية.
يلي ذلك هدير العريف: "الرفيق الطليعي، كن مستعداً لبناء المجتمع العربي الاشتراكي الموحد والدفاع عنه". فيردد التلاميذ: "مستعدٌّ دائماً".
هما تماماً دقيقتان مدة المشهد، لكن بحسبة بسيطة فإن الزمن الجمعي لتحية العّلم المسائية هو 14 ساعة، أهدرها التلاميذ في شيء خارج عن اهتماماتهم الطفولية؛ لإرضاء حزب تمكن من السلطة بعيد منتصف القرن الماضي، وما زال يظن أن أدبيات الخمسينيات والستينيات يجب تلقينها للأجيال الطليعية جيلاً بعد جيل.
فما الذي سيفهمه طفل من تعبير "المجتمع العربي الاشتراكي الموحد"، الذي يختزل في طيات كلماته مجلدات من علوم الاجتماع والاقتصاد والسياسة، قامت حولها دول وأمم ثم سقطت بفعل ثورات الشعوب حين اكتشفت ما تحتويه هذه التعابير من تخدير للعامة، سمحت جراء تأثيرها للنخب الحاكمة بالتسلط على مقدرات الشعوب، التي اقتحمت ذلك يوم قصر نيكولاي تشاوشيسكو وزوجته، واكتشاف المئات من أفخر الأحذية يملكانها فيما أقدام العمال والفلاحين المتقرحة لا تجد مرهماً شافياً! ذلك الديكتاتور الروماني، الذي يقُال إنه كان وراء إقناع الرئيس الراحل حافظ الأسد باستحداث منظمة طلائع البعث إبان زيارة الأخير لبوخارست عام 1974.
إنها إذاً صناة البروباغاندا منذ نعومة الأظفار. صناعة شمولية بامتياز، تتلقى الطفل صبياً وتصدره ببغاء يردد ما لا يفهم حتى إذا كبر اضطر إلى أن يصوغ لنفسه منظومة يدافع بها عن ببغاءيته، ليسوغ ويبرِّر بذلك قصور فهمه عن المعاني التي طالما رددها، كلفظ الحرية التي خرجت الجماهير تطالب بها، فاستهجن ذلك وراغ على المطالبين بها ضرباً باليمين مستنكراً: بدكن حرية؟
هذا هو المشهد الذي شاهدناه كمشاهدين. لكن يبقى السؤال: ماذا كان الأطفال يشاهدون خلال التجهز لتحية العلم المسائية.
الإجابة عن هذا السؤال أيضاً تحمل في طياتها الكثير من الأجوبة على ما حل بالسوريين.
ما شاهده الأطفال هو شخصٌ ما، لعله مدير المدرسة يمسك بيده جهاز هاتف جوال، يدور عليهم في باحة المدرسة ويصورهم بالكاميرا المزروعة فيه. إنها عين الرقيب إذاً تقول للأطفال: أنا هنا أراقبكم، أزرع الرعب في قلوبكم البريئة، في باحة المدرسة التي يُفترض أنها بُنيت أساساً لتلعبوا فيها دون أي شعور بالخوف بعد انتهاء حصص دروسكم.
هذا ما يراه الأطفال. إنها إذاً المدرسة إذ تتحول إلى معبد من معابد الاستبداد.
أما الأمل الذي نراه نحن فهو أن يعي مدير المدرسة الذي كان يصور الأطفال أنه في يوم من الأيام كان يقطن على بعد أمتار من مدرسته شاب قرر الهرب من معبد الاستبداد هذا فغادره إلى حيث الحرية وأنجب طفلاً تنشق نسماتها فكان من جراء ذلك أنه اخترع جهاز الهاتف ذا الكاميرا. هذا هو الأمل.. أن تندثر معابد الاستبداد في سوريا وينتشر عبير الحرية في أثيرها فيخرج منها آلاف ستيف جوبز.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.