وقف قائد القوات العسكرية محمد سياد بري، في الذكرى الأولى للانقلاب 20 أكتوبر/تشرين الأول 1970، يخطب ويقول: "في ثورتنا نعلن أننا ألغينا سلسلة من الاقتصاد القائم على الاستهلاك، والذي يعتمد على الواردات، ونحن نقرر مصيرنا واقتصادنا؛ لهذا من أجل تحقيق مصالح الشعب الصومالي وتحقيق التنمية وحياة أفضل نعلن بأننا اشتراكيون".
التحوّل من الاقتصاد الرأسمالي إلى الاقتصاد الاشتراكي لا يكون سهلاً بهذه الطريقة، حيث إنه يحتاج إلى كفاءة علمية ومهنية من الخبراء الاقتصاديين والسياسيين ومخططين وباحثين. التحول يحتاج إلى جيش أكاديمي لأنك تتحول من نظام قائم إلى نظام غير قائم، ويترتب عليها إعادة صياغة السياسة الخارجية والسياسة التجارية، والتعامل مع المنظمات الدولية، وخاصة البنك الدولي وصندوق النقد، وتدخل في صراع دولي بين القطب الرأسمالي والقطب الاشتراكي، أي الحرب الباردة.
وغالباً تصبح الدول الضعيفة ضحية في هذا الصراع، ومعظم الدول النامية التي اعتمدت الاشتراكية كسياسة اقتصادية أصابها انهيار اقتصادي، أدى إلى الخضوع والاستسلام للمنظمات الرأسمالية، وأيضاً عملية التحول هي في جوهرها تتطلب إعادة صياغة الدولة والمجتمع؛ لأن الدولة كانت وليدة وكانت تنمو في يد الاستعمار، والمجتمع الصومالي مجتمع تقليدي، واقتصاده رعوي قائم على التبادلات البسيطة الشبيهة للمقايضة.
قادة الانقلاب لم يدركوا هذا البُعد السياسي والاقتصادي والسوسيولوجي الذي يترتب على هذا التحوّل، فخطاب سياد بري كان نوعاً ما ارتجالياً لا أكثر، فما حدث في السنوات الأربع الأولى كفيل بإدراك مدى فشل التحول الاقتصادي في الصومال من ناحية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
الاقتصاد الاشتراكي يتزلزل في السنوات الأولى
تبنّت الحكومة الصومالية ما بعد الاستقلال اقتصاد السوق المفتوح، وهي نظرية رأسمالية حيث يكون العرض والطلب المحددين الرئيسيين بالنشاط الاقتصاد دون تدخّل الحكومة، وكانت الحكومة تعتمد على الدعم الخارجي من الحكومات البريطانية والإيطالية التي كانت تدعم الميزانية بنسبة 31 بالمائة، وكان هناك مستشارون اقتصاديون ومهنيون ومتخصصون اقتصاديون يقومون بالأعمال الاقتصادية -الإدارية والتخطيطية- على حد سواء؛ لأن الحكومة الصومالية ينقصها الخبرة العلمية والعملية لإدارة الاقتصاد الوطني. وأيضاً كان هناك شركات عمالقة عقدت اتفاقات مع الحكومة الصومالية لبناء المشاريع، مثل شركة "Westinghouse" الأميركية لليورانيوم.
وإذا عدنا إلى خطاب المرحوم سياد بري في الذكرى الأولى للثورة، فإنها كانت بمثابة إعلان كارثة اقتصادية، فسياسة التأميم "صوملة الاقتصاد" كانت تستهدف القطاع المالي والاستثماري من المصارف والبنك المركزي والاستثمارات الأجنبية والشركات التي تقدم الخدمات العامة، مثل التأمين، والتي غالباً يديرها الأجانب، فكل هذه الثروة ستتحول إلى ملكية الدولة، مما يعني أن الدولة ستمتلك أصول ورأس مال هذه الشركات وهنا تطبّق الحكومة الاشتراكية وصية الشيوعية التي كانت "مصادرة جميع أموال المهاجرين"، وقررت إنهاء خدمات خبراء الأجانب في البنك المركزي.
يقال إن السفير السوفيتي الممثل للدولة الراعية والحليف الأكبر للصومال قد نصح الرئيس سياد بري بألا يقوم بهذه السياسات، ورد الرئيس بكلمة واحدة، وقال: "لأننا اشتراكيون"، فردَّ السفير قائلاً: إن الوضع الصومالي لا يحتمل التأميم، وإنه يسبب التخلف الاقتصادي.
ولنقص في الكوادر وعدم الخبرة في الإدارة فإن المؤسسات المؤممة ستنتهي بالفشل والإفلاس، فعلاً حدث ما كان يتوقعه السفير السوفيتي، انهار الاقتصاد الصومالي في السنوات الأربع الأولى (1970 – 1974) بحدوث جفاف ومجاعة، وانهار الاقتصاد الزراعي "Abaarti Daba-dheer" بسبب تدخّلات الحكومة وادعائها بأنها توزّع الدخل.
هجر المزارعون الزراعة، ولقيت الدولة الصومالية دعم من الخارج وكان معظمه من الإنتاجات الزراعية من القمح وغيرها من الحصاد الزراعي الذي كان من الممكن إنتاجها عن طريق القطاع الزراعي، وأضِف إلى ذلك حدث انهيار في سوق الاستثمار بهروب شركات الاستثمار، من بينها شركات التنقيب عن البترول وشركات عالمية كبرى، مثل شركة "Westinghouse" الأميركية من التأميم.
ووصل التأميم إلى سوق الموز الصومالي التي كان محتكراً للحكومة الإيطالية بأسباب تاريخية، قاطعت الحكومة الإيطالية الموز الصومالي بسبب التأميم، وفعلاً انهار الموز الصومالي أمام التنافس الدولي في السوق العالمية، وهنا تنهار أكبر سلعة تصديرية أو الميزة التنافسية للدولة الصومالية في السوق العالمية.
في السنوات الأربع الأولى للنظام الاشتراكي انهار القطاع الزراعي بصورة كبيرة بسبب إجبار المزارعين على بيع منتجاتهم حصراً إلى وكالة التنمية الزراعية، بحجة تثبيت الأسعار لحماية المستهلكين؛ حيث إن الوكالة تستغل المزارعين وتشتري منهم بأسعار متدنية أقل بكثير من قيمة التكاليف، وانهار الاقتصاد الزراعي بهجر المزارعين للزراعة؛ لأن الزراعة ليس لها ميزة نسبية في السوق، وعليها ضرائب مرتفعة، وأخيراً تستولي وكالة التنمية على المنتجات الزراعية، بهذه الصورة الدرامية توقّف نشاط الاقتصاد الزراعي.
الانهيار الكبير (1977 – 1991)
كان الجيش الصومالي يستهلك أكثر من 80 بالمائة من موازنة الدولة في شكل رواتب للقوات المسلحة، وانتشر الفساد الإداري والمحسوبية وسوّقت الحكومة مقولة "اشتغل لنفسك" (Iska Wax U Qabso) بالصومالية، وهذه مناقضة لقيمة العمل، فالعمل له قيمة وتكلفة، ولا بد أن يجد العامل أجر العمل، وهذا مبدأ ماركسي اقتصادي.
وأيضاً التوظيف الإجباري بدون احترام التخصصات الوظيفية، مما سبب انهيار وإفلاس معظم الشركات الحكومية بسبب الفساد أو سوء الإدارة.
بعد انهيار معاهدة الصداقة بين الاتحاد السوفيتي وبين الحكومة الصومالية عام 1977، فقدت الحكومة الصومالية كل شيء، من بينها التسليح، وخسرت المساعدات العسكرية الهائلة والدعم الاقتصادي، وخسرت أيضاً ستين مشروعاً كبيراً كانت تحت التنفيذ، أهمها سد "فانولي" على نهر جوبا لإنتاج الكهرباء وتوسيع الرقعة الزراعية وتنظيم الري، كما كان الاتحاد السوفيتي يغطي حاجة البلاد للبترول مجاناً.
انهار النسيج الاجتماعي مما أدى إلى توقف التنمية الاقتصادية، بسبب سياسات القمع والغزو العسكري لبعض المناطق، ومحاولة الانقلاب في 1978 وإعدام العلماء والاعتداءات على بعض الأشخاص بتهمة معارضة الثورة ونشر أفكار دينية، وغيرها من الانتهاكات التي أدت إلى تحولات اجتماعية وسياسية انتهت بتعطيل عجلة الاقتصاد.
والحكومة الصومالية استخدمت كل طاقاتها في الحرب ضد إثيوبيا، وأيضاً ضد الجبهات المعارضة في الداخل، مما جعل الحكومة غير قادرة على الإصلاح الاقتصادي، فتوجهت إلى القرض الدولي من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، الذي هو بدوره اغتال آخر ما تبقَّى من الجسم الاقتصادي للحكومة.
دخل الاقتصاد الوطني مرة أخرى صراعاً مع السوق العالمية بسبب وقوف عجلة الاقتصاد داخلياً، وانهيار سوق الصادرات مثل المواشي والموز، ودخلت الحكومة الصومالية عزلة قاتلة، وكانت أكبر صدمة عندما أوقفت المملكة السعودية استيرادها من الصومال عام 1983، مما جعل صندوق النقد الدولي يطلب من الحكومة الصومالية تخفيض قيمة العملة ووضع خطة اقتصادية هيكلية تصحيحية، وتطبيق الخصخصة وتغيير جميع السياسات الاقتصادية.
وهذا يعني العودة إلى مربع الرأسمالية والتحالف معها، وهذا لم يشفع للاقتصاد الصومالي، فكانت بمثابة عقوبة اقتصادية مفروضة على الاقتصاد الصومالي، تدريجياً انهار النظام الاقتصادي، وانهارت معه جميع الخدمات، وانخفض مستوى الأجور بنسبة 90 بالمائة، وانخفض مستوى الالتحاق بالمدارس، كما انهارت العملة الوطنية.
وانتشرت الحروب والفوضى في جميع المناطق، وفقدت الحكومة السيطرة وأصابها عجز في الميزانية وشُحّ في السيولة، وأخيراً سقطت الحكومة الصومالية وعليها 2 مليار دولار ديوناً الخارجية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.