(1)
الرجل يجلس منبسطاً، يهز رأسه مع الإيقاع المميز، ولا مانع من تصفيق خفيف لتشجيع مَن وقفوا أمامه على المسرح يغنون لمبايعته، هم مُنشرحون دون سبب مثله تماماً.
سندرك بعد ذلك أن المشهد لم يكن ركيكاً إلى حد بعيد، وأن هناك أصولاً للسماجة لم يتجاوزها بشكل كبير.
(2)
كان أوبريت "اخترناه" يُعرض كثيراً على التليفزيون القديم في بيتنا القديم؛ فحفظناه وسئمناه، وتاهت تفاصيله في الذاكرة، عدا طبعاً فستان هدى عمار المنتفخ من ناحية الكتفين. وسيكون عبثياً لو سألني أحدهم قبل عشرين عاماً: "هل تشتاقين لسماع الأوبريت؟".
أما الآن، فأنا أشتاق، بل إن الحنين قادني لأصبح أحد مدمني هذا الأوبريت، وتحديداً تلك الجملة المُخلصة الفذة التي تصف بدقة هوان الدنيا على المصريين، "وإحنا معاه لما شاء الله"!.
كيف لا أحنّ لـ"اخترناه" في عصر "أبو الرجولة"؟.. كيف لا أحن للرجل نفسه؟! إن صوره كانت في كل أمكنة الطفولة، خطبه في التلفاز القديم، في البيت القديم، اسمه مذكور بالسوء سراً؛ كلما مرت علينا ضائقة مالية وكلما لم تمر. في الأعياد، كنت أسمع الجميع يهنئه، وأشاهده في صلاة العيد، حد اعتقادي أن العيد الذي لن يصلي فيه لن تحسبه الدولة، وبالتبعية نحن، وسيجرونا مجبرين إلى مدارسنا وأشغالنا؛ لأنهم ألغوا العيد وإجازته.
(3)
مساء 11 فبراير/شباط 2011، لم أشعر بوخزة المُوَدع لرجل حضر كل طفولتي ومراهقتي وجزء من شبابي، بل هتفت للانتصار على محمد حسني مبارك واحتفلت لأيام مع الأصدقاء وانتظرنا محاكمته عن مُجمل أعماله في البلد.
غير أن الوقت والألم صنعا الإدراك، وتدريجياً اكتشفت أني فقدت شيئاً، جزءاً شديد الالتصاق بي، وبدأت أفتش عن الأوبريت على "يوتيوب" وعن خطب وحوارات الرجل، كان خفيف الظل، كيف لم ألحظ ذلك وقتئذ؟!. وأصبحت ضيفاً دائماً على الفيديوهات التي يظهر فيها، إنني أستمتع وأحن، بنفس درجة الاستمتاع والحنين لسماع تتر مسلسل المال والبنون، وأغنية "لولاكي"، ورؤية "بانك" مصطفى قمر الثمانينات وقميص "علِّي الضحكاية"، واسترجاع مذاق الحلوى الرخيصة، وفساتين الطفولة ذات الذوق غير المفهوم.
وما جرى هو أن أيام مبارك هي أيامي، وللأسف "هي أيامي الحلوة"؛ لأنها الماضي، ونحن نحِنّ لكل ماضٍ، مهما بلغت قسوته.. إن أقسى ما فعله مبارك هو أنه حدث في ماضينا.
(4)
مشكلتي أني سمعتها قبل أن أراها، وأحببت صوتها الرقيق المظلوم بإيقاع أغانيها، ثم رأيتها واكتشفت أنها محاولة مصرية خالصة لمواجهة العري اللبناني بآخر بلدي.
وأنا أحب روبي منذ ظهورها، وهي في الحقيقة مشكلة بالغة التعقيد، أن تحب فتاة مصرية روبي؛ فكم من نظرات دهشة تلقيتها، عندما أسرب هذه المعلومة لأحدهم، وكأني مسؤولة عن انحدار مستوى الغناء العربي!. وحقيقة لا أخفي دهشتي من أولئك الذين أحبوا روبي في السنوات الأخيرة "أين كنتم في بداية الألفية عندما كنت أناضل للدفاع عن صوتها الرقيق؟ وهل اكتشفتم سحرها هكذا فجأة؟!".
(5)
المساحات المشتركة بينهما كثيرة، روبي ومبارك، هي بدأت حياتها الفنية صدفة أو كرد فعل أمام الانفتاح اللبناني الكبير، تماماً كمبارك، الذي جاء نائباً لرئيس جمهورية كان يبحث عن شخص وديع يملأ فراغ المنصب، ثم عندما قُتل الرئيس جيء به لسد الفراغ.
كذلك فالاثنان رقصا؛ هي على إيقاع الطبلة، وهو على جثثنا.
ثم انسحبت روبي من مشهد التعري؛ ربما لأنها أعادت حساباتها، أو لأنها حققت الشهرة التي سعت إليها، وبالتالي أصبح لديها فرصة لإظهار موهبتها، دون جسدها، أو ربما لأنها انفصلت عن مخرج كليباتها، شريف صبري، المهم أنها توقفت، وربما تعود.
ومبارك توقف هو الآخر؛ ربما لأنه أعاد حساباته، فاكتشف أن هذا الشعب لا يستحقه، أو لأن من اكتشفوا موهبته سابقاً قرروا التوقف عن إخراج كليباته السياسية، أو لأن حساباته في أن يصبح ابنه رئيساً كانت خاطئة، لكن المؤكد أننا لم نكن مؤثرين بدرجة كافية في لعبة بقائه من عدمه.
المهم، الاثنان توقفا، وبدآ مرحلة جديدة.
(6)
بدأت روبي في إظهار موهبتها التمثيلية، خاصة في مسلسلي "بدون ذكر أسماء، وسجن النسا"، ونسي الناس كل ماضيها الجسدي، بل إن المجلس القومي للمرأة كرمها على أعمالها الدرامية، وترحم الناس على تعري روبي، بعدما تابعوا عصر التعري "اللي على أصوله" الحالي.
ومبارك عندما بدأ مرحلة اللارئيس، وشُوهِد في قفص المحاكمة، نسي الناس ماضيه الأسود، وبدأوا يركزون مع كبر سنه، ومترو الأنفاق الذي أنشئ في عهده، والكباري التي أقامها، والمعارضة التي كانت تشم نفسها، وأشياء أخرى، وهؤلاء الناس ترحموا على مبارك؛ بعدما ذاقوا مرار ما بعده.
(7)
أنا الآن أحنّ لحزني على مشاهد غرق عبّارة السلام، وغيظي من مبارك وهو يتابع مباراة المنتخب الوطني في نهائيات كأس الأمم الإفريقية، بعد يومين من الحادث.
إنه الحنين لحزن الماضي؛ بعدما فقدنا القدرة على أن نحزن، لقد تبلدنا.
(8)
وفي مبارك وروبي؛ فإن الأول تفوق على الثانية، كونه توقف بعد أن ترك وراءه من يمكنهم "سواقة" مصر بطريقة أكثر انحرافاً، أما روبي فتوقفت، ولم تترك وراءها سوى ستة كليبات.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.