يعتبر فيلم "المجنون" Nuts من أكثر الأفلام التسجيلية تفرداً، سواء في موضوعه أو في أسلوبه. إنه قطعة سينمائية بديعة، تروي بالصورة والصوت، قصة مشوقة للغاية، باستخدام أسلوب الفيلم الروائي.
الفيلم الذي أخرجته المخرجة الأميركية بيني لين Penny Lane، يفتح ملف رجل لا يعرفه الكثيرون، فقد طواه النسيان وطويت صفحته، لكنه كان قد شغل الدنيا في عموم الولايات المتحدة وقت أن كان يعيش ويعمل ويبتكر ويحقق النجاح ويثير الإعجاب، بل والحسد.
تستخدم المخرجة في فيلمها عناصر من الفيلم التسجيلي ومن الفيلم الروائي، من الوثائق القديمة النادرة المصورة (سينمائياً) أو الصور الثابتة الفوتوغرافية القديمة، أو قصاصات الصحف، ومقاطع الأفلام المنزلية (التي تظهر بالألوان قبل الانطلاق الرسمي للأفلام الملونة في السينما). كما تستخدم عدداً من المقابلات التي صورتها مع بعض المؤرخين والمعلقين المتخصصين. ولكن ربما كان العنصر الأكثر بروزاً في الفيلم هو عنصر التحريك، فالمخرجة كلفت فريقاً من الرسامين وخبراء التحريك بخلق بدائل للمادة البصرية الغائبة، بحيث أصبح لدينا أيضاً فيلم من داخل الفيلم، يروي بالدراما والتمثيل (الصوتي) ويسهم في استكمال فصول تلك القصة المثيرة.
قطعة سينمائية بديعة، تروي بالصورة والصوت، قصة مشوقة للغاية، باستخدام أسلوب الفيلم الروائي.
لا تبدأ المخرجة فيلمها بـ"الحقائق الثابتة المجردة"، بل تستدرجنا أولاً، إلى الموضوع وإلى التعرف على الشخصية المثيرة التي تقدمها لنا، ثم تكشف تدريجياً عن مواهبها المتعددة، ونجاحاتها التي قد تثير الإعجاب، قبل أن تتجه في الجزء الأخير من فيلمها، إلى الكشف عما يكمن تحت هذه الصورة البراقة، ثم المصير الذي حصده بطل القصة.
الشخصية التي يبحث الفيلم وينقب في تاريخها، هي شخصية جون برينكلي الذي نراه من خلال الرسوم والتحريك والتعليق الصوتي للراوية، يتوجه وهو في عام 1902، وكان لا يتجاوز السابعة عشرة من عمره، حافي القدمين، تبدو عليه مظاهر الفقر والفاقة، إلى عميد الجامعة يطلب تسجيله في كلية الطب. فكان أن سخر منه الرجل وطرده.
حياة إنسان
كان العنصر الأكثر بروزاً في الفيلم هو عنصر التحريك.
في النصف الأول من الفيلم يعتمد السيناريو الذي كتبه توم ستيلنسكي، على ما جاء في كتاب "حياة إنسان" الذي كتبه، تأليف كليمنت وودز، ويفترض أنه يروي قصة حياة برينكلي. يفتتح الفيلم ببعض ما جاء في الفصل الأول وهو بعنوان "شيء ما جديد تحت الشمس"، ثم يظل ينتقل عبر الفصول السبعة يقتبس منها ما يدعم تفاصيل قصة برينكلي الغريبة. في هذا الفيلم عام 1902 كان برينكلي المقيم في بلدة صغيرة بشمال كارولينا، يرغب في دراسة الطب، لكنه لم يكن قد أكمل دراسته العليا بعد.
والواضح أن هناك فترة طويلة من شبابه سقطت أو أغفلت عمداً في الكتاب، فهو سيعاود الظهور بعد مرور 17 عاماً أخرى، كطبيب حاصل على شهادة من إحدى جامعات الولاية، يقيم ويعمل الآن في ميلفورد بولاية كنساس؛ حيث يمتلك ويدير صيدلية. وذات يوم يأتي إليه مزارع يشكو من الضعف الجنسي المستمر منذ 12 عاماً، وبالتالي عدم الإنجاب، فيقول له برينكلي ببساطة حسب القصة التي نتابعها من خلال التحريك: مرضك ليس له علاج بعد. لكن الرجل يلمح خروفاً خارج الصيدلية في حالة جماع. فيعود ليقول لبرينكلي: لماذا لا تزرع خصية هذا الخروف في جسمي؟ يفكر برينكلي لبرهة ثم يهز رأسه ويقول: لكن هذا سيقتضي أن تدفع بعض الأتعاب.
هذا الأسلوب الكوميدي في رسم معالم القصة يستدرج المتفرج نحو الأحداث المتتالية. برينكلي سيجري فعلاً عملية نقل خصية الخروف أو الجدي إلى الرجل، وستنجح العملية (أو هكذا سيبدو الأمر) وستنجب زوجة الرجل، ويذيع صيت برينكلي باعتباره زارع خصى الخرفان. وسيجري آلاف العمليات، ويحظى بالتقدير والإعجاب من رجال ونساء كثيرين أفلحت معهم هذه العمليات.
يقول لنا الفيلم- من وحي كتاب "حياة إنسان": إن نقل الغدد الحيوانية ذاع لدرجة أن نجم السينما الصامتة جيمس ريردون، ورودلف فالنتينو نفسه، بل والرئيس ويلسون شخصياً كانوا ممن ترددوا سراً على عيادة الدكتور برينكلي؛ حيث أجرى لهم عمليات مماثلة ناجحة. ويقول التعليق الصوتي للراوية: إن المخرج الشهير، بستر كيتون، استوحى في فيلمه "رجال الشرطة" (1922) مشهداً هزلياً لرجل يذهب إلى عيادة طبية لإجراء عملية زرع خصية خروف، نراه وهو يتلفت حوله خشية أن يراه أحد، وهو المشهد الذي تستخدمه بيني لين في فيلمها!
عبقرية حقيقية
المخرجة كلفت فريقاً من الرسامين وخبراء التحريك بخلق بدائل للمادة البصرية الغائبة بحيث أصبح لدينا أيضا فيلم من داخل الفيلم
لن يتوقف نشاط برينكلي عند هذا الحد، بل يتفتق ذهنه عن الاستعانة بالاختراع الجديد وقتذاك وهو الراديو، فينشئ محطة إذاعة عام 1923 بقوة 5 آلاف وات؛ لتصبح رابع أكبر محطة إذاعية في عموم الولايات المتحدة تغطي ثلاثة أرباع الولايات تقريباً، ويتحدث يومياً عبر هذه الإذاعة، كما يصبح من أوائل الذين يبتكرون الإعلانات التجارية التي تبث في أجهزة الإعلام للدعاية لابتكاره الطبي السحري. والأهم أن برينكلي كان أول من أدخل الموسيقى والغناء الريفي الأميركي ليبث في الإذاعة، محققاً نجاحاً كبيراً وشعبية هائلة بين الجمهور، ما ساعد في رواج المحطة، وبالتالي رواج عملياته الجراحية الغريبة.
في نهاية العشرينيات ابتكر برينكلي ما أطلق عليه "الصندوق الطبي الإذاعي" الذي سمح للناس من مختلف الولايات أن يكتبوا الرسائل إليه بشكواهم الطبية؛ لكي يقدم لهم الوصفات العلاجية عبر الراديو. وفي مشهد شديد الطرافة نشاهد كيف اقتضى الأمر أن يستعين برينكلي بعدد كبير من المساعدين لتفريغ حمولة مئات الجوالات من الرسائل البريدية التي كان تنهال عليه من كل مكان، ثم أصبح يمتلك مئات الصيدليات في عموم وسط الغرب الأميركي، وكان يمول مشروع "الصندوق الطبي" من نسبة من أرباح الصيدليات.
ينجب برينكلي وزوجته ابناً يطلقان عليه "جوني بوي"، وفي الفصل الثاني وهو بعنوان "الكوبرا تلدغ" يكون الطفل قد كبر قليلاً. وتأتي اللدغة من جانب نقابة الأطباء الأميركيين التي تنتبه لما يقوم به برينكلي، فيجتمع مجلسها ويقرر منع برينكلي من إجراء العمليات. تقول المؤرخة الطبية ميجان سيهولم إن النقابة التي تأسست في 1847 كان كل أعضائها من الرجال البيض، وكانت تصر على أن الأطباء المؤهلين المحترفين فقط هم الذين يمكنهم تقديم العلاج. وسيظهر من بين أعضاء مجلسها طبيب يدعى "فيشبين" يتفرغ تماماً لإصدار صحيفة النقابة ويخصص وقته للقضاء على الدخلاء. وبعد أن ينجح فيشبين في استصدار قرار بحظر برينكلي عن القيام بعمليات زرع غدد الخرفان بعد أن مارسها أكثر من عشرة آلاف مرة، يخاطب اتحاد الإذاعات الأميركية لحظر الإذاعة التي يمتلكها الرجل.
كان برينكلي كما نرى في مشاهد من أفلام مصورة له مع زوجته وابنه، صياداً ماهرا لسمك التونة العملاق. وقد قام بتعليم ابنه الصيد. وكان يستخدم سمكة التونة في الدعاية لنفسه. وأصبح يمتلك قصراً رائعاً، ويختاً بديعاً وينتقل بطائرة خاصة.
لا يكف برينكلي عن التفكير في ابتكار وسائل جديدة يحقق من ورائها الانتشار والشهرة ويجني الكثير من المال. ففي 1930 يقرر خوض الانتخابات لمنصب حاكم ولاية كنساس. وهو يعد الناس بعشرات الأشياء المجانية ومنها التأمين الصحي الشامل، ويحظى بتأييد الملايين، ويستخدم كل الوسائل في الدعاية لنفسه، وتنتقل كتل من الجماهير وراءه من ولاية إلى أخرى بالقطارات.
لم يكن برينكلي عضواً في حزب، ولكن القانون الأميركي يسمح بالترشح بشكل مستقل لمن يشاء دون التسجيل في قائمة المرشحين، ومن حق المقترعين الذهاب إلى صناديق الاقتراع؛ ليكتبوا اسمه في بطاقة الانتخاب. يسيطر الفزع على أصحاب المصالح فيجتمعون ويتفتق ذهن زعيمهم، عن فكرة جهنمية: ضرورة أن يكتب الناخبون الاسم الصحيح الكامل للمرشح أي جون. ف. برينكلي وإن أخطأ أحدهم ونسي ولو نقطة واحدة يعتبر صوته باطلاً. وقد انتصرت الفكرة وهزم برينكلي، وقيل إنه تم تزوير النتيجة لإنجاح خصمه!
بعد حظر محطة الراديو في كنساس، اتجه برينكلي إلى المكسيك، إلى بلدة "ديل ريو" قرب الحدود الأميركية، فأنشأ هناك محطة إذاعة عملاقة كانت تبث بقوة مليون وات أي أكبر من أي محطة إذاعية في أميركا، وكان بثها يصل إلى 17 دولة. وكان هو يقيم في منزل داخل أميركا على الجانب الآخر من الحدود، وكان يبث أحاديثه الإذاعية عبر الهاتف. وقد أسس برينكلي مستشفى في تلك البلدة التي كان يقيم فيها، ولكن في 1934 أصدر الكونغرس قانوناً بإلغاء التسهيلات التي سنحت لبرينكلي بإنشاء محطة إذاعة خارجية تبث إلى الداخل الأميركي من دون تصريح مسبق من الكونغرس.
لكن برينكلي يلتف بعبقريته، حول هذا القانون الجائر، فيقوم بتسجيل برامجه وأحاديثه على أسطوانات يرسلها عبر الحدود إلى "ديل ريو" لكي تبث من هناك. أنشأ برينكلي عدداً من المستشفيات في المكسيك لعلاج البروستاتا والتهاب القولون، ثم ابتكر دواء سحرياً جديداً بديلاً لعلاج الضعف الجنسي، ولكن هذه المرة للحقن، وقال إنه يتكون من مستحضر من خصية الخرفان، وبالتالي لم يعد الأمر يقتضي إجراء عملية جراحية. لكن فيشبين كان له بالمرصاد، وقد أخذ يصول ويجول داخل نقابة الأطباء، وقال: إن برينكلي نصاب غير مؤهل، يربح 55 ألف دولار أسبوعياً من خلال الاحتيال.
مرحلة السقوط
اتضح أنه لم يحصل قط على شهادة في الطب
بسبب هذا الهجوم رفع برينكلي قضية تشويه سمعة ضد فيشبين. وبدأ نظر القضية في مارس/آذار 1937. من هنا يبدأ الفيلم في الكشف عن الشخصية الحقيقية لبرينكلي، من خلال أسلوب المحاكمة والتحقيق المألوف في الكثير من الأفلام الروائية الأميركية. لكننا نشاهد تفاصيل نظر القضية: ما يقوله القاضي والخبراء من الشهود والمحامين.. إلخ من خلال التحريك، مع تدخل من جانب التعليق الصوتي ليربط بين أجزاء القضية التي استغرق نظرها ثلاثة أيام.
مرحلة السقوط تختتم تلك الدراما التي لا تنتهي بأن يخسر برينكلي القضية، بل سيمتد الأمر بعض الوقت وينسحب أيضاً على زوجته وابنه، وتكشف عن الكثير من الجرائم الأخرى الموازية الغامضة.
لقد اتضح أنه لم يحصل على شهادة في الطب، وأنه لم يكن يزرع غدة الخروف بل كان يلصق جزءاً منها تحت جلد كيس الصفن، وبالتالي لم تكن تختلط بالدم، بل ولا تصلح غدة الحيوان أصلاً للامتزاج في جسم الإنسان كما يشهد أحد الخبراء. وأما السائل الذي كان يحقنه وقيل إنه سائل سحري مكون من غدة الخروف، فقد أثبتت التحاليل أنه مكون من الماء مع صبغة زرقاء. وكشف محامي فيشبين أن برينكلي كان قد تزوج قبل زوجته الحالية، وأنجب منها بنتين، خلافا لما قاله أمام المحكمة، وأنه سجن في الماضي في قضية احتيال ونصب في ولاية أخرى، بعد أن مارس الطب دون أن يكون قد حصل على شهادة. أما الجانب الأخطر فقد اتجهت إليه الشبهات في تصفية جميع خصومه الذين أسقطوه في الانتخابات الذين لقوا حتفهم جميعاً واحداً بعد الآخر في حوادث غامضة!
جون برينكلي كما يقدمه الفيلم، نموذج للنجاح بالمفهوم الأميركي، الذي لا يسوق بضاعته بالدعاية، ولكن لأنه كان يعمل بمفرده ولم يكن جزءاً من بنية عليا أقوى، متمكنة ومتداخلة في المصالح، كان من السهل كشفه وإسقاطه. لكن كم رجلاً أكثر منه إيغالاً في الغش والتضليل والضحك على عقول البسطاء، خاصة من كبار مديري البنوك، تمت محاسبتهم بعد ما تسببوا فيه من كوارث خلال السنوات الأخيرة؟
لا شك أن بيني ديان نجحت بمساعدة فريقها البحثي، في الحصول على مادة جيدة ووثائق أصلية كثيرة منها تسجيلات بالصوت والصورة، ونجحت في إعادة توليفها وإعادة تمثيل الكثير من الأجزاء التي لم تملك عليها وثائق وصياغتها من خلال إيقاع سريع متدفق، باستخدام التحريك. ولم تستخدم بيني المقابلات وهي مع أربعة أشخاص فقط، إلا عند الضرورة لتسليط الأضواء على بعض الأحداث من دون الكشف عن باقي التفاصيل للإبقاء على الحقائق حتى النهاية. إنها ببساطة تبدأ من صورة خيالية صنعها كاتب سيتضح فيما بعد أن برينكلي استأجره، ودفع له خمسة آلاف دولار؛ لكي يكتب كتابه الذي يبدو كما لو كان يروي "قصة كفاح" لا شك أنها تروق لكل من يداعب خيالهم "الحلم الأميركي". وتصل في نهاية الفيلم إلى تحطيم الصورة التي صنعها برينكلي لنفسه.
رغم ذلك تبقى الكثير من الجوانب التي لم يتوقف الفيلم أمامها كما كان ينبغي، منها مثلاً كيف كانت المستشفيات والصيدليات التي أسسها وامتلكها برينكلي تعمل؟ لقد اتهمه بعض العاملين فيها بأنه كان يجري العمليات وهو ثمل. لكن الصورة التي نراها له في أفلام الدعاية الملونة التي كان يبثها في السينما لنفسه تصوره كرجل أسرة وأب حنون، وزوج مثالي، أي في صورة الأميركي العصامي الذي صنع نجاحه بنفسه. ومنها أيضاً مسألة نجاح عملياته في شفاء الكثير من الأشخاص ونجاحهم في حياتهم الزوجية ومساعدتهم على الإنجاب، خاصة أنهم يقفون بجانبه ويشهدون لصالحه أمام لجنة الكونغرس؛ بل إن المزارع الذي أتى إليه في البداية وأشار عليه بفكرة استخدام خصية الخروف، يظل حتى النهاية على موقفه من الإعجاب به!
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.