كانت رحلة عبر الزمن، رحلت عن الماضي لتطير إلى المستقبل وتبدأ فيه حياة أخرى مليئة بالتجارب والأفكار والوجوه. كانت الصين كالحلم الوردي تلوح لي من بعيد منذ الصغر، كنت قد وضعتها في أول سطور Bucket List، لتمر السنون وأتوجه إليها لأنهي سنوات دراستي هناك حين سمحت لي الفرصة.
استقبلتني بلاد المليار ونصف المليار نسمة بجو ممطر وبارد شيئاً ما. وصلت إلى المدينة التي قطنت فيها 5 أشهر ليلاً، كان العديد من الطلبة ينتظروننا، ليمدّوا لنا يد العون نحن الطلبة الجدد ويسهلوا علينا التأقلم مع أول ليلة بعيداً عن وطننا وأهلنا، نحن الذين لم نغادر وطننا يوماً.
لم يكن اليوم الموالي كسابقه، لبست الطبيعة لوناً زهرياً، وابتسمت الوجوه لنا في كل مكان، الكل كان يريد أن يساعد غرباء قد أتوا لتوهم من المغرب. كان التأقلم سيكون صعباً جداً لولا مساعدة الصينيين لنا، شعب مضياف خدوم خجول. كانت وَجْنتا الصيني تشتدان احمراراً مع أول سؤال، فيحكُّ رأسه أو يصوِّب نظارته قبل أن يجيب عن السؤال بكل إخلاص. بعد أيام التعارف والتأقلم، بدأنا الاستكشاف والزحف في شوارع مدينة نانجينغ الهادئة، كان كل شيء يوحي بالعظمة والنظام والأمان كذلك، فلم تكن تجد الأنثى منا أدنى مشكلة في التنقل حتى ساعات متأخرة من الليل، لم يكن يزعجنا أحد، مطلقاً.
مدن الصين التي زرت كلها مزيج من الحضارة والتاريخ والعولمة، في كل مكان تزوره ترى الحاضر والماضي والمستقبل، بنايات شاهقة ومتاحف ومعالم أثرية ومعابد وأسواق قديمة ومولات فسيحة، كلها جذورها تضرب في عمق التاريخ لتزهر بسماء المستقبل. رغم الكثافة السكانية التي تعرفها المدن، فإن كل شيء منظم بيد سحرية لا تعلم من أين أتت، لكن بحكم معاشرتي إياهم اكتشفت أنهم شعب منظَّم، تعلَّم كثيراً من الماضي، من الثورات وسنوات المجاعة والفقر والاضطهاد والعمل في الحقول.
أصبحوا وطنيين أكثر مما مضى، جعلتهم المِحن يحبون وطنهم أكثر ويريدون التضحية من أجله بكل شيء. مرة دعتني صديقة صينية إلى مطعم تقليدي للسمك، لبَّيت الدعوة فرِحةً، بعد انتهائنا، أصرَّت على النادلة لتعطيها الفاتورة، أصرَّت بشكل غريب، لم أفهم الأمر فسألتها عن السبب، قالت لي إنه بهذه الطريقة ستتأكد أن صاحب المطعم سيدفع الضرائب للدولة. لم تكن حكومة الصين هي الوحيدة التي انتهجت الإصلاح من أعلى الدرج لأسفله؛ بل المواطنون كذلك.
قبل 15 سنة أو أقل، حسب رواية بعض الأصدقاء الصينيين، كانت الصين من شرقها حتى جبال الهمالايا ترزح تحت الكثير من الفقر والظلم والفوضى، كانت القرارات المتَّخذة صعبة جداً وراح ضحيتها الملايين من الشعب، كالثورة الثقافية، التي لم تكن تملك من اسمها شيئاً، والتي خلَّفت أزيد من مليون قتيل والملايين من المقموعين والمحبَطين. قبلها كانت الحرب التي شنتها اليابان على الصين ثقيلة النتيجة، أبيدت مناطق ومدن عن آخرها، لكن شعب حضارة الهان يعرف كيف ينتفض من قلب الدخان كذائق الفينيق ويعيد بناء نفسه من جديد. فحضارة عمرها أزيد من 4 آلاف سنة لا يمكن لها إلا أن تكون قوية وراسخة في الذاكرة والتاريخ.
كل هاته الأمور كنت تحس بها عند المواطن الصيني، الذي كان مستعداً للعمل 20 ساعة في اليوم ليكون بمصاف أو يتفوق على الدولة التي استعمرته كاليابان. وطنية الصيني هي ذاكرة التاريخ ورؤية مشرقة للمستقبل، يتخذون من ماضيهم الحزين والمليء بالمآسي حافزاً ليكونوا شعباً أفضل من الأمس، وهذا ما جعل منهم قوة اقتصادية وثقافية وسياسية وجيواستراتيجية تغزو العالم بأَسره لتتحقق بذلك تنبؤات نابليون بونابرت، الذي أكد أن نهضة الصين ستؤثر على العالم: "Quand la Chine se réveillera, le monde tremblera"
تعلمت منهم كيف يحَب الوطن، وكيف يلزمنا التضحية من أجله وخدمته ولو أعطى ثماره بعد حين للأجيال القادمة.
لا يمكن أن نغض الطرف عن الديمقراطية الرهينة وحرية التعبير التي ما زالت ترزح تحت الكثير من القيود في بلاد حضارة الهان، وعن الفوارق الطبقية التي تعرفها المناطق كلها، وعن الحزب الوحيد الذي يجثم على الساحة السياسية فيحكم ويعارض ويتخذ القرارات. لكن حسب رواية الصينيين، فإن الوضع تقدَّم كثيراً عما كان عليه في الماضي القريب، حيث كان الفقر والظلم والظلام والتخلف تسود البلاد دون أن يتركوا ولو بقعة ضوء. الأمور في تحسُّن منقطع النظير، وقد أصبح للصين وزن لا يستهان به مطلقاً في الساحة الدولية بعدما أصبحت تمتلك بنودَ خزينة الولايات المتحدة الأميركية التي أصبحت تدين بالكثير منذ الأزمة الاقتصادية الأخيرة.
عشت في مدينة نانجينغ وزرتُ بكين وشانغهاي المدينة-العالم كما يسمونها والتي تستضيف ملايين الأجانب وتجود عليهم بجمالها وروعتها وعظمة عمرانها. خلال إقامتي هناك، تعلمت الكثير من الأشياء من الصينيين الذين تعلو الطيبةُ وحسنُ الضيافة محياهم، علمت منهم أنهم يعملون بكدٍّ وجدٍّ لتشريف وتكريم أولئك الذين سقوا أرض الوطن بعرقهم ودمائهم.
لا يمكنني إنكار العديد من الظواهر السلبية هناك كجميع الدول التي تجود بالصالح والطالح، لكنني تعلمت منهم كيف يحَب الوطن وكيف يلزمنا التضحية من أجله وخدمته ولو أعطى ثماره بعد حين للأجيال القادمة. المهم أن يزهر ولو في فصول لاحقة. "إنسان بلا ذاكرة هو إنسان بلا حياة. وشعب بلا ذاكرة هو شعب بلا مستقبل".
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.