هل هو شعور بالخوف من الحسد، أم أنه طبع و"الطبع غلاب"، كما يقال، هل هي أنانية أم قلة أصل؟ هل الأفضل (تقضية الواجب) دون الشعور بما نفعل تحت بند (رد الجمايل)، أم التحرك بإحساسنا تجاه أي شيء نفعله؟ هل تلك التصرفات إشارة لنا على أن هؤلاء الأشخاص غير مهمين بحياتنا، ومن ثَم يجب علينا معاملتهم بالمثل، أم أنه يجب معاملة الله في جميع تصرفاتنا في الحياة دون انتظار المقابل؟ فقط نحتسب الأجر والثواب..
أسئلة كثيرة وتساؤلات تدور في أذهاننا تجاه تصرفات أشخاص يربطنا بهم علاقة دم وقرابة قوية كنا نعتبرهم يوماً من الأيام من لحمنا ودمنا، لكن إذ فجأة نصعق ببعض تصرفاتهم وردود فعلهم.
بالطبع حديثي هنا عن علاقات الأقارب من الدرجة الأولى (إخوة ببعضهم البعض، أبناء مع والديهم، أسر الإخوة وبعضهم البعض – أزواج وأبناء، أي علاقات جميعها لا تتعدى نطاق العائلة الواحدة بعد أن يشق كل منهم طريقه ويتزوج، ويكوّن أسرة منفصلة عن أسرته الأصلية؛ حيث التصرفات الغريبة التي تحدث فيما بينهم (أسافين، نفسنة، حقد، غل، غيرة، حسد، خوف..) وغيرها.
وهنا تنتابني الدهشة والاستغراب في علاقات قوية وأشخاص تربطهم علاقة دم؛ لنجد: أبناء يضعون آباءهم في دور للمسنين، آباء وأمهات يبخلون على أبنائهم ويحرمونهم من المال، أخ يسترجل على شقيقته ويمارس عليها دور "سي السيد"، أخت تشعر بالغيرة من شقيقتها، للأسف هذا ما يحدث ويتكرر كثيراً داخل العائلة الواحدة، ونراه واقعاً حياً أمامنا.
وحينما تتفرع هذه العائلة إلى أسر صغيرة، تبدأ مشاحنات ومضايقات من نوع آخر؛ حيث الغيرة والحقد تارةً، والخوف من الحسد وكتمان الأخبار السعيدة والبوح بالمشاكل والهموم فقط تارةً أخرى.
وهنا نجد التشوّه واضحاً في هذه العلاقات التي من المفترض أن تكون قوية، حين يدخل الشكّ في نفوس البشر وشبح الحسد والخوف من البوح بكل شيء مفرح، والمشاركة فقط في الأحزان.
وأعتقد أنه بمجرد دخول مثل هذه الأمراض في نفوس البشر، ويظهر ذلك على تصرفاتهم، لا توجد أهمية لمثل هذه العلاقات من الأساس، فالدم هنا ليس شفيعاً لاستكمال علاقات مشوّهة ينقصها الحب والأمان والنفس الراضية.
كما يستحب قطعها، نعم قطعها، فوجودها في حياتنا أكبر خطر على صحتنا عضوياً ونفسياً.
لكن للأسف أصبحت مثل هذه العلاقات متكررة وبشدة في حياتنا، نراها ونلمسها في كل بيت، تحت بند "صلة الرحم"، وأعتقد أنها "صلة رحم مُقنَّعة"؛ حيث التعايش فيما بينهم لدرجة تصل إلى التمثيل والتصنّع في بعض المواقف.
وأزعم أن سبب وجود مثل هذه العلاقات الفاشلة في حياتنا هو المجتمع؛ حيث كلام الناس، وبسبب خوفنا من هذه الأقاويل حيث القيل والقال، نجد أنفسنا مستمرين في علاقات محكوم عليها بالفشل.
لا أقصد من كلامي هذا الاستسهال وقطع صلة الرحم، التي أمرنا الله بها، وحدّثنا رسولنا الكريم عنها، ففي صلة أرحام نزلت آيات من الذكر الحكيم.
يقول الله تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا" (النساء: 1).
وقال سبحانه: "فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" (الروم: 38).
أما عن فضل صلة الرحم في السّنّة المشرفة، فإن فضلها عظيم وثوابها كبير، كما بيّن ذلك المصطفى -صلى الله عليه وسلم- في أحاديث كثيرة، منها: "صلة الرحم تزيد في العمر وتبارك في الرزق" أخرجه البخاري ومسلم.
وعن أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَن سرَّه أن يبسط له في رزقه وأن يُنسأ له في أثره فليصِل رحمه".
وعن عائشة -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "صِلة الرحم، وحُسن الخلق، وحسن الجوار، يعمرن الديار، ويزدن في الأعمار".
وعن عمرو بن سهل -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "صلة القرابة مثراة في المال، محبة في الأهل، منسأة في الأجل".
فكل هذه الأدلة كفيلة بأن تعطينا قدراً من التسامح والغفران، وإزالة البغيضة والحقد والغل في نفوسنا، بل وحدها دافع قوي كي نتسارع معاً لإقامة وبناء علاقات قوية ناجحة، ونبذل قصارى جهدنا مع مَن نحبهم لمحاولة الاحتفاظ بهم وكسب ودّهم، بالرغم من شخصياتهم أو طبائعهم التي ربما لا نستطيع تغييرها، أو بمعنى أصح ليس من حقنا تغييرها.
لكن يبقى رابط الدم هو الداعم القوي لهذه العلاقات، وهو دافعنا لاستكمال هذه العلاقات بحب وود، شريطة إزالة كل شعور سلبي تجاه الطرف الآخر، والتصرف تجاههم بدون أي تمثيل أو تصنّع يجعل وجودهم عبئاً علينا في الحياة، فالحياة قصيرة، وعلينا استغلالها والاستفادة منها، والفوز بكل ما يؤهّلنا للوصول للجنة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.