لم تكن أيام الخدمة العسكرية عادية، بدأت مع نهاية 2012 وانتهت مع نهاية 2013، مررتُ بها بكل الأحداث، بين الرغبة في أن تصنع تجربة عسكرية جديدة بعد ثورة وأمل ثم انقلاب ومذبحة ورعب.. زرتُ فيها صحاري اليأس وذُقت نار الاكتئاب.
(1)
بين الأفراح والأحزان، صرخات الفرح والصمت المطبق يتلخص مشهد يوم الإرجاء، يوم يتحدد مصيرك القادم هل ستصبح أحد جنود أو ضباط القوات المسلحة أم ستنطلق حراً تحمل شهادة الإعفاء؟
بروح شبه متفائلة استقبلت أذني أنني أصبحت أحد جنود القوات المسلحة، يبدو الأمر مريباً في بدايته، عام سينقضي في الجندية بينما يبدأ أقرانك حياتهم العملية، كنت مملتئاً بروح الثورة وقلت في قرارة نفسي: جاء اليوم الذي يصبح فيه الجندي يسدد ضريبة الدماء بحق، ولكن كانت للأيام كلمة أخرى.
(2)
جهّزت أغراضي، وتوكلت على الله مستعداً لقضاء أول أيام الجندية، توجهت في ساعة مبكرة مع شروق الشمس إلى منطقة التجنيد.
"سيب كرامتك على الباب"، قالها ضابط الصف، وبدأت أولى البشائر، ثم بدأ في محاضرة طويلة تخللتها النكات التي لا تخلو من الإيحاء الجنسي، ثم انتقل إلى الحديث السياسي قائلاً: "الجيش واحدة من مهامه حماية الشرعية الدستورية.. وإحنا بنحمي البلد من أي خطر حتى لو رئيس الجمهورية"، وبدأت النقاشات بينه وبين الشباب المتحمس للثورة، نقاشاً عبثياً مطولاً كئيباً، ذهب مع آخر ما تبقى لنا من الحياة المدنية، كما ذهب كل شيء، فقط بقي صدى صوت مزعج يتردد "سيب كرامتك على الباب".
قطع النقاش العبثي ضابط برتبة رائد، رحب بنا ترحيباً سريعاً، ثم قال إن كل ما سنحتاجه من أدوات موجود في الكانتين، وعلينا أن نشتريه؛ ﻷنه لن يتوفر في مراكز التدريب، ثم أضاف: محدش يجبرك تشتري ومفيش مكسب دي بنفس أسعار برة ، اتضح بعد ذلك إن كل كلامه خاطئ، فكل المراكز تعج بكل شيء، وكلمة السر دائماً الكانتين، إذا نفدت بضاعة الكانتين ينتهي يوم الإرجاء، إذا نفدت بضاعة الكانتين تستلم بطاقة 110، إذا نفدت بضاعة الكانتين يبدأ رسمياً الترحيل إلى مراكز التدريب.
(3)
"اقعد بالأمر يا عسكري"
جلسنا في الحافلة كل عدد 3 أفراد لـ2 كرسي، مرصوصين كالبنيان لا ننطق ببنت شفة، بين الدهشة ومتعة استكشاف البدايات المجهولة، وقف أحد الشباب ولم يستطِع الجلوس بحجة أن المكان ضيق، أشار له الضابط بالجلوس، فرد قائلاً: "مش عارف أقعد".. فرد الضابط: "اقعد بالأمر يا عسكري"، وبدأت أول أوامر العسكرية.
جلسنا على أسفلت أرض الطابور الساخن نتصبب عرقاً، نستمع إلى كلمة قائد مركز التدريب، ثم ضابط الأمن الذي استفاض في الحديث عن الثورة، وأن الجيش ليس به سياسة، ومن له توجّه سياسي يحضر مكتب الأمن بعد طابور المساء.
توجهنا للغداء، كانت أول مرة في حياتي آكل طعاماً لا أعرف ما هو! كاد الجوع يقتلني، واحترت في استكشاف ماهية هذا الشيء الذي آكله، واكتشفت بعد نقاشات موسعة مع زملائي أنه باذنجان مطبوخ أو ما يسمى بالطبخة السودة، انفجرت ضحكاً دون صوت، وتذكرت قصص أبي عن خدمته العسكرية وعن تلك الأكلة الخزعبلية.
تسلمنا الأغراض أو المهمات، وبدأنا نتبادل الأحذية والمعاطف؛ ليناسب مقاساتنا المختلفة، كان مشهداً عجيباً، وأنت تقف في وسط عنبر واسع يحوي بين جنباته 48 جندياً وتنادي قائلاً: "حد معاه فردة شمال 45″، خلدت إلى نوم عميق بعد يوم شاق مرهق جسدياً، أظنه كان أسهل أيامي في القوات المسلحة المصرية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.