لي صديقتان أحبهما جداً، لكن ظروف الحياة تُباعِدنا دائماً بشكل يستحيل معه الوصال الدائم؛ ولذا نتفق على يوم من كل شهر لنجتمع فيه بعيداً عن "سلامات" و"طيبون" العابرة عبر تطبيقات التواصل الاجتماعي مثل الواتساب، يوم يرى فيه أحدنا الآخر، ونتحدث ونضحك ونحكي بصدق، بعيداً عن الـ"إيموشنز" الضاحكة المصطنعة، كنت دائماً ما أنتظر هذا اليوم، الذي دائماً ما يتغير موعده تبعاً لظروفنا، خصوصاً ظروف صديقتنا الأم لطفلين، التي لا تمتلك من الوقت ما يكفي لأن تمارس أي نشاط إنساني بجانب الأمومة، إلى أن اقترحنا عليها أن تأتي بهما، تغييراً لها، وتغييراً لهما، وقد كان التغيير مفيداً للكل فعلاً، سواي أنا!
بعد نحو ساعة من جلوسنا معاً، بدأ الأطفال يتململون في جلستهم، ظننت أن هذا أمر مؤقت، إلى أن تحوَّل التململ إلى صياحٍ عالٍ يُطالب من خلاله الأطفال بألف طلب في الثانية الواحدة، وحين لم تتحقق هذه الطلبات أخذ الوضع منحىً مختلفاً تماماً، فبدأوا يتقافزون على المقاعد، أو يجلسون تحت الطاولة، أو يتعلقون بثوب واحدة فينا من أجل تحقيق مطالبهما! وما بين "كفى ضوضاء يا عزيزي" و"كفى صراخاً يا حبيبتي"، تحولت دماغي إلى لعبة الطبلة الصغيرة الموجودة أسفل بطن قرد، التي يدق عليها القرد بذراعيه ما إن تُحرِّك "الزمبلك" الخاص بها!
استمر الدق في رأسي إلى أن تمكن من كل جزء فيها؛ بل أصبحت أحس به يملأ جنبات روحي، وددت لو أهرب سريعاً، وحين سألتها كيف تتحملين كل هذا؟! ابتسمت وقالت: "أتعرفين.. هذه هي المرة الأولى التي أشرب فيها كوب الشاي إلى نهايته دون أن يبرد".
انتهى اليوم، وما لبثت أن تركتُ صديقتي وعدت للمنزل حتى شعرت وكأن جبلاً قد انزاح عن كاهلي، أعددت كوباً من القهوة، وجلست أرشفه على مهل في شرفة منزلي الجميل، مستمتعةً بالصمت التام والهدوء الذي لا مثيل له، أضحيت أغبط نفسي، وأسبّح بحمد الله وأحمده على نعمة الهدوء والقدرة على المكوث مقداراً من الوقت مع حالي، من دون أي إزعاج، من دون "ماما.. ماما.. ماما" التي تتكرر في الثانية آلاف المرات من دون أي مبالغة، وحين قررت مشاركة تجربتي هذه على حسابي بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، حصد المنشور الكثير من المشاركات والإعجاب، لكنه في الوقت ذاته حمل إليّ الكثير من اللعنات!
سبّني الكثيرون، اتهموني بعدم تقديري قداسة الأمومة ورسالتها السامية، ألقوا عليّ اللعنات، وحذروني من قول هذا مرة أخرى حتى لا يحرمني الله من نعمة الإنجاب لاحقاً، قالوا إنني معدومة الأمومة والإنسانية وأفتقر إلى مشاعر الحب والحنان، وإنني نرجسية وأنانية إلى حد يستحيل معه أن أحب أولادي إن أنجبت في المستقبل؛ لأنني أفضل أن أجلس مع نفسي بعض الوقت في هدوء تام لأحتسي قهوة على أن يكون لي طفل يجرجرني من ملابسي أو يشدني من شعري كل خمس دقائق ليطلب شيئاً ما، بينما علّق آخرون بأن الأمومة لم تكن يوماً سهلة، ولكنها تهون بنظرة واحدة أو ضحكة بسيطة من طفلك، تنسى فيها كل التعب الذي تشعر به، وإنني أقول هذه "الافتراءات" عن صعوبة كون المرأة أماً؛ لأنني لم أجربها بعد، وإنه حالما أجربها سأغير رأيي كلياً!
وحقيقةً، لم أعرف ما هو سر السباب والويلات واللعنات التي انهالت عليّ لمجرد أنني قلت إن تربية الأطفال متعبة ومزعجة ولا يوجد بها أي شيء "رومانتيكي" مما نراه في الإعلانات التلفزيونية، فأطفالنا لن يُشبهوا الأطفال الذين يأكلون السريلاك أو يرتدون البامبرز أو يستحمون بشامبو الأطفال في الإعلانات، لن يكونوا بمثل هذا الهدوء الفظيع ولا هذه النظافة الكبيرة، ولا هذا الضحك الرقيق الذي يكشف عن أسنان لامعة كاللؤلؤ؛ بل سيكونون كما هو حال أغلب الأطفال مزعجين مجانين.
يظنون أنه من الممكن جداً أن يقفزوا من الدور العاشر ليطيروا كما سبايدر مان، دون أن تُكسَر عظامهم، وأنه من الجائز جداً سكب العصير في حوض الاستحمام! لم أعرف ما سر اعتباري امرأة ناشزاً ضد الفطرة لمجرد تعبيري عن أن ما عايشته جعلني أُدرِك أن الأمومة مسؤولية قوية وخطيرة لا قِبل لي بملاقاتها في مثل هذه السن التي أنا فيها الآن، وأن الأمر يتعدى هذه العلاقة الأفلاطونية الحالمة بين الأم ووليدها، فهناك أشياء أكبر يجب أن يدركها الناس في الأمومة، وألا ينظروا إلى إطارها الخارجي المقدس الخالي من أي مضمون حقيقي ومسؤول!
تناسيت الموضوع كلياً، ومر عليه وقت ليس بقليل، إلى أن طالعني تقرير لصحيفة الغارديان بعنوان "كسر التابوهات.. أمهات ندمن على الأمومة"، تناولت كاتبته إحساس العديد من الأمهات بالندم جرّار إنجابهن أطفالهن، وتعبيرهن عن أن هذا الندم لا ينتقص ألبتة من حبهن أطفالهن، وإنما هو ندم على اتخاذ القرار أو الإقدام على الخطوة من دون حسابها حساباً دقيقاً؛ ظناً منهن أنهن قادرات على التعامل مع الموقف واحتضان صغارهن والمواظبة على استكمال أعمالهن وحياتهن الشخصية والعملية بسهولة، وهو ما لم يحدث! فقد استهلكت الأمومة من وقتهن وجهدهن ما حرمهن من مواصلة العمل، في حين يظل رجالهن قادرين على الاعتناء بالأطفال جزئياً والعودة لأشغالهم بمنتهى البساطة، لتظل باقي أعباء التربية واقعة بشكل أساسي على الأمهات، بما يسبب لهن شعوراً قوياً بالندم تجاه الأمومة.
وتقول كاتبة التقرير: "إن كل من عبرن من النساء حول العالم عن الندم على الأمومة تم تنميطهن في التنميطات نفسها التي عايشتها من خلال إعلاني عدم قدرتي على تخيل تحملي مسؤوليات الأمومة، النشوز والأنانية والنرجسية وعدم الحب ورؤية الذات فحسب، بينما هي أشياء غير حقيقية بالمرة؛ لأن هؤلاء الأمهات لم يقصرن في واجباتهن تجاه أبنائهن، إنما فقط عبرن عن شعور بأنه لو كان الأمر بأيدهن، لتراجعن عن القرار قديماً!".
تعجبت من التقرير، وقررت أن أنقب خلف الموضوع فيما يتعلق بالأمهات في مصر، فخضت أحاديث كثيرة مع صديقاتي؛ لأجد نسبة ليست بضئيلة بينهن ممن ندمن فعلاً على الأمومة، ونسبة عبرن عن عدم رغبتهن في الإنجاب مؤقتاً أو حتى دائماً، بينما عبرت أخريات عن أنهن لسن نادمات، وإنما سعيدات بأمومتهن بالفعل، لكنهن لم يكن يعتقدن أنها بهذه المشقة! وفي كل الأحوال، تصر كل منهن على ألا أذكر اسمها في مقالتي هذه؛ لأنها تخاف أن تعبر عن شيء مثل هذا، حيث سيتهمها الجميع بأنها إنسانة ضد فطرتها الطبيعية.
من هنا أدركت أن المجتمع المصري يضع تنميطات خاصة بالأمومة، ويُكرهِنا عليها كنساء، حتى إنه قد وضع لهذه التنميطات تمسية "الأم المثالية"!
تتعلق هذه المعايير بشكل أساسي بنمط الأم الموجود في شخصية امرأة تتناسى نفسها وتفني كيانها إلى حد الذوبان والتبخر عن الوجود، من أجل تحقيق ذوات أبنائها وتربيتهم والسهر على راحتهم بشكل مطلق تام يجعلها تنسى أنها امرأة في المقام الأول؛ بل يجعلها تنسى أنها إنسان أصلاً، فلا يتحقق لها أي شيء من النجاح أو تحقيق الذات أو الشعور بالرضا عن كيانها، فتحاول أن تعمي عيونها طوال الوقت عن هذا؛ لتنتظر نتائج هذه التضحيات "المثالية" حين يكبر الأولاد ويشتد عودهم، فتحاول أن تحقق نفسها من خلالهم، فإذا ما اختاروا طرقاً أخرى أو حاولوا تحقيق ذواتهم بعيداً عن الطرق التي رسمتها لهم شعرت بأنها قد أفنت عمرها في السراب!
لم تكتفِ مجتمعاتنا بوضع هذه المعايير القاسية في الأمومة، وفي سب وقذف كل من تحاول الخروج عنها أو البحث عن ذاتها بعيداً عن إطارها، وإنما أهانوا الأمومة التي يقدسونها في المقام الأول! فهم يحثون على الإنجاب ويقولون إن الدور الأساسي للمرأة هو رعاية الأولاد، ويشيدون بتلك التي تضحي بحياتها في سبيلهم، لكنهم في الوقت ذاته يُشعرونها بأنها عالة، عبء على الجميع، يجب أن تلزم بيتها لراحتها وراحة أولادها وراحتهم! كيف تصلي في المسجد بأولادها وهم يصنعون الضوضاء للمصلّيات؟! كيف تذهب بهم إلى السينما وهم سيبكون في قاعاتها؟! كيف تخرج بهم إلى "كافيه" لتروّح عن نفسها مع صديقاتها وهي ستعلم أنهم سيتقافزون فوق المقاعد ويكسرون أي شيء في طريقهم؟! كيف تذهب للعمل وهم معها فيسيئون التصرف أو يضايقون المدير بعض الشيء؟! كيف تأخذ إجازة أمومة أكثر من ثلاثة أشهر إن لزم الأمر، ألا يكفيها 3 أشهر بعد الولادة لتكون أمور الطفل قد استتبت فتعود للعمل، وإلا فلتأخذ إجازة من دون مرتب، أو لتترك عملها نهائياً وتركز في تربية الأطفال أرحم لها وأرحم لهم؟!
إذاً، فمجتمعنا يحثنا على أن نكون أمهات، ويسبنا إن أعلنّا عدم رغبتنا في هذا، ولا يعاوننا إن فعلنا، ثم يسبنا مجدداً إن أعلنّا أننا نادمات على الملأ!
من حقنا أن نشعر بأننا لا نرغب في الأمومة ولو لفترة وجيزة من حياتنا، من حقنا كنساء أن نتعامل مع الأمومة على أنها مرحلة في حياتنا، لا تقف عندها حيواتنا، وأننا غير مجبَرات على أداء دور اجتماعي ما لمجرد أن المجتمع يرغب في ذلك، من حقنا أن يوفر لنا المجتمع السبل لاحترام أنوثتنا وحقنا في الرغبة والإنجاز والحياة، وأن يعاون النساء ممن يرغبن في الأمومة دون إشعارها بأنها عبء يجب التخلص منه، من حقنا أن تتغير مفاهيم التربية، بحيث يتحمل الرجل أعباءها مناصفةً مع المرأة، وأن يكون له دور في التربية والإرضاع وتغيير الحفاضات والذهاب بالأولاد للتمارين الرياضية وتصحيح الواجبات المدرسية وإعداد الطعام، من حقنا أن ندمر معايير المثالية الحمقاء للأمومة، وأن نعبر عن مشاعرنا حتى ولو لم تكن على أهواء المجتمع؛ لأن هالة القداسة حول الأمومة شيء سخيف جداً!
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.