باريس.. التي لا نعرفها!

عربي بوست
تم النشر: 2018/04/28 الساعة 07:09 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/04/28 الساعة 07:40 بتوقيت غرينتش
Paris France

لم أسمع عن جمال مدينة في حياتي كما سمعت عن العاصمة الفرنسية باريس، فهي مدينة الحُب والجمال، وهي مدينة الثورة والنهضة، كما يقولون وأكثر، وبالنسبة لشابٍ مثلي ترعرع في قريّة صغيرة على تلّة من تلال فلسطين فلم أكن أتخيّلها إلا وكأنها قطعة من الجنّة.

اللحظات الأولى التي قضيتها في باريس عصيّة على النسيان، بل كيف أنساها وقد وصلتها بعد مُنتصف الليل مُنهكاً بعد رحلة طويلة بالسيارة من وسط ألمانيا استغرقت أكثر من 8 ساعات بكثير، وكان التعب قد نال منّي فنمت ولم أستيقظ إلا والسيارة قد توقفت في "باريس"!

مُشكلتي أنني لم أكن حينها أحلم، بل كُنت قد استيقظت بالفعل حين قفزت من السيّارة لتأمل "الجنّة" التي لطالما سمعت عنها، وكان أول ما رأيت شارعاً شبه مُظلم وثلّة من الشباب يجلسون وسط العتمة في مشهد مُريب يذكّر بأحياء العصابات في الأفلام الأميركية، وعلى الجهة الأخرى كان هناك مطعم عربي قال صاحبي بأننا سنأكل فيه، ولأن الجوع كان فظيعاً، فقد كانت فرصة عظيمة لنسيان كُل شيء والتركيز على الوجبة "العربيّة" في "باغيس"، كما يقول بعض "المستثقفين" العرب.

لا أبالغ لو قُلت بأنه ذلك المطعم من أسوأ المطاعم التي دخلتها في حياتي، وقد يختلف الناس في الأذواق، وللحق فلست أذكر عن الطعم إلا أنه كان مُخيّباً للآمال، ولكن النظافة في المطعم كانت كارثيّة، وأما المرحاض فكان أسوأ، وأذكر أننا لم نمكث في المطعم إلا قليلاً، أكلنا بسرعة وانطلقنا إلى فندق كانت صاحبة المطعم قد أخبرتنا عنه، وكان الآخر سيئاً جداً، وأسوأ ما فيه المُعاملة كما المظهر والهيئة.

لم يكن الرجل يتحدث غير اللغة الفرنسية، ولم أفهم كيف يُمكن لموظف استقبال ألا يُجيد أساسيّات اللغة الإنكليزية مثلاً، بل والأنكى أن يُطالبك بالحديث بالفرنسية، وكأنها "فرض عين" على كُل سائح، والكارثة التي تبيّنت لي لاحقاً، أن الرجل لم يكن شاذاً عن القاعدة، فما أكثر الذين لا يجيدون إلا الفرنسية، بل إن أحد المُسلمين حاول أن يساعدنا في إحدى محطات القطارات أجاب بـ"وي" عندما سألته إن كان يُجيد العربية ثم راح يجيب عن سؤالنا "العربي" باللغة الفرنسية عن طيب خاطر وهو لا يتخيّل -كما يبدو- أن هناك بشراً لا يفهمون الفرنسية!

النُّكتة أن الوصول إلى بُرج إيفيل الشهير لم يكن سهلاً أيضاً، لم أكن أتخيّل أن هناك من الفرنسيين مَن لا يعرف بأن برج إيفيل الذي يُسمى بالإنكليزية "Eiffel Tower" هو نفسه "توريفيل" كما يلفظونه بالفرنسيّة، وقد اضطررنا لسؤال أكثر من شخص دُون أن يعرف ما نريد، وما أنقذنا من ورطتنا إلا سائق تاكسي أشفق علينا -فيما يبدو- وقرر أن يُساعدنا وبعد مُحاولات مُضنية قالها بصوت مُتحمس: "آآآ توريفيل" وضحك وضحكنا وشرح لنا مع شيء من لغة الإشارة كيف الوصول.

كان بُرج إيفيل أكثر ما "أبهرني" في باريس في تلك الرحلة، وكان مُبهراً أكثر بكثير من هيئته في الصور، ولكن ماذا يوجد غيره؟ القصور والمتاحف والمسارح، وللحق فلم أدخل إلا متحفاً واحداً، ولكن الغصّة والخيبة من تصوراتي المتراكمة منذ أيام الطفولة في القرية لم تكن لتكتفي بأن تكون "الجنّة" الباريسية على هذا الشكل، وكما يُقال: على قدر التوقعات تكون الخيبات!

صحيح أن في باريس وأحيائها كثيراً من الجمال، خاصّة لعُشاق العمارة الأوروبيّة الكلاسيكية والباروكيّة وحتى القوطيّة، ولكن من قال إنها أجمل المُدن؟ ولماذا لا تكون "هايدلبرغ" الألمانية هي الأجمل؟ أو لربما غرناطة الأندلسيّة في إسبانيا؟ بل من الذي يُحدد معايير الجمال غير السينما والاستعمار في زماننا؟ ومن غير هاتين كان قادراً على باريس تبدو جنّة في أذهاننا؟

قد ينتفض بعض عُشاق باريس من كلماتي، وقد ينعتونني بالجهل، ولكن صورة "الغيتو" الباريسي الذي استقبلني في رحلتي القصيرة لم تفارقني ولا تفارقني، ومن شاهد فيلم "المنبوذون" الفرنسي لا بُد أنه شاهد شيئاً من طبيعة هذه الأحياء التي كان يعيش فيها "إدريس"، وكيف انتقل إلى الأحياء الراقية بعدها، وكأنه كان يعيش في عالم آخر.

هذه العوالم التي لا نراها غالباً، هي العوالم التي يستقر فيها المُهاجرون غالباً وللأسف.. وجودة الحياة فيها سيئة كما هي في بعض المخيمات الفلسطينية رغم كُل الفروقات في البِنى التحتية مثلاً، إلا أن مَن يعيش فيها يشعر، وكأنه "لا شيء" في نظر الآخر "ابن البلد"، وهذه موجودة في برلين وبروكسل.. ولكنها في باريس أشد وأشنع!

مدونات الجزيرة

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
عمر عاصي
كاتب فلسطيني يعيش بألمانيا
تحميل المزيد