"التاريخ هو تحقق الروح، كما قال هيجل، وماهية الروح هى الحرية، فتقدم التاريخ يعني التقدم في تحقيق الحرية أو الوعي بالحرية التي تحققت، فالشعوب المتقدمة هي الشعوب التي تعي أنها حرة، فتتمسك بهذه الحرية وتنتج علماً وفناً وفلسفة".
إن البعد السيكولوجي في أي شخصية له النصيب الأكبر في تكوين هذه الشخصية.. فالطغيان ليس مجرد سلوك، بل هو انعكاس عن حالة ذاتية داخلية يعيشها الطاغية.. إنها حالة سيكولوجية تمثل الدافع الدينامي الداخلي للسلوك الاستبدادي والتسلطي والتفردي، وهي تمثل جوهر الأنا الذي يتصور المستبد من خلاله ذاته، والآخر من حوله.
وبالتالي ينظم العلاقة بينه وبين الذات الآخر، وفق هذا التصور، ولهذا فإن الاستبداد في حقيقة الأمر يمثل نزعة داخلية لدى الفرد المستبد تدعوه للسيطرة والتفرد والاستحواذ والسطوة والتملك، فالطاغية هو ذلك الشخص المغرور المتعجرف المتسيّد، وعند أفلاطون هو شخص مضطرب، طموح، فيه سمة دنيئة أصيلة، جائر، يظهر في فترات الاضطراب والقلاقل الاجتماعية والاقتصادية، فيستغل حاجة الجموع لـ"قائد"، يتقرّب منهم في بداية الأمر، ويصعد على حسابهم، ثم يجمع حوله طغمة من المنتفعين والمتسلقين، ثم يكشف عن روح الذئب ويطلق لرغباته الخاصة والمنحطّة العنان.
يقول الكواكبي: الاستبداد لغة هو غرور المرء برأيه، والأَنَفَة عن قبول النصيحة، ويصف المستبد بقوله: "يود أن تكون رعيته كالغنم دراً وطاعة (خرفان)، وكالكلاب تذلُّلاً وتملُّقاً، وعلى الرعية أن تكون كالخيل إن خُدِمت خَدَمت، وإن ضُربت شَرِسَت، وعليها أن تكون كالصقور لا تُلاعَب ولا يُستأثَر عليها بالصيد كله".
ومن صفات الطاغية، ادعاء المعرفة دون غيره، يعمل على تشويه صورة كل معارض أو كل من لا يقف معه، ويمكن له أن يشوّه صورة الدعاة والمصلحين؛ لأن ذلك بالتأكيد سيتضارب مع أفعاله وأقواله، فيسخر الإعلام ورموزه من بطانته؛ ليقوموا بالحرب على كل ما هو مخالف، ويصور أن بلاده تنعم بالأمن والأمان والاستقرار، وأنها أكثر الدول استقراراً ورخاءً، وأنها قبلة العالم، ولا شك أنه المتدين الأول والحريص على الدين.
كما يعمل الطاغية على بث الفرقة بين أبناء الوطن الواحد، وكذلك كل فساد بين الناس، ولعل المرأة هي أول ما يبدأ الفتنة حولها بدعوى المساواة، وهو بذلك يجبر الجميع على نوع معين من المعارف والعلوم تخدم ما يريد.
فمن السمات الأساسية للطاغية أنه لا يكترث برضا الناس أو موافقتهم على حكمه، فالمهم إجبارهم على السمع والطاعة، فلا يمكن أن يسيطر الديكتاتور على الناس بحق دون أن يحكم السيطرة على ما يلقى في عقولهم، وعبر هذه الأساليب يعمم الطاغية أو المستبد، هذه المعادلة.. إما أنت مع الطاغية، فأنت ابن الجماعة البار.. فلا وجود لكيانك المستقل إلا عبر ولاء مطلق، لهذا الطاغية، ولا بد أن تدلل بشكل دائم ومستمر على هذا الولاء.
وإما أن يسحب منك حق الانتماء لهذه الجماعة؛ لأنك قد خرجت على الطاغية، وصدر بحقك الصكوك والفرمانات لتحرم من كل مغنم، ويكون مصيرك الطرد والإقصاء والإبعاد من الجماعة، وتجرد من كل حقوقك من هذا الانتماء، ويسحب جواز عبورك، أو هوية انتمائك، بمجرد أن تقول للطاغية لا؛ لأنك بذلك تصبح عضواً منشقاً عن هذا الجسم الذي يدين للطاغية بالولاء.
والطغيان والاستبداد متلازمان نتاجهما الظلم وغمط الحق، والنفس البشرية تواقة للحرية بطبعها، تكره من يكبلها ويضع القيود لها، ولعل التساؤل الذي يهم الجميع ما هي العوامل التي تهيّئ للطغيان وجوده وكذلك خلق الطاغية، وكذلك تكوين عقلية الطاغية الذي يعيث فساداً في الأرض؟! فالطاغية لا يبالي بما يفعل، فيقهر الناس ويغلبهم من غير خوف أو وجل أو حرج، ولا يثنيه عن ذلك شيء، وذلك لتجاوزه الحد في الجبروت والتعالي والتكبر والمعاندة والظلم وغمط الحق.
وهو ليس لأفعاله قانون يقيدها، فهو فوق كل قانون، وفوق كل اعتبار، وبفضل هذا التضخيم يصبح الديكتاتور إلهاً.
يظل الأدب تصويراً وانعكاساً لما يحدث في المجتمع، يرصد بأقلام كتابه معاناة الشعوب وأحلامهم ومشكلاتهم، يجسد تفاصيل السنوات في سطور، ويظل الأدب اللاتيني هو المؤسس الأول لما يعرف بـ"أدب الديكتاتورية" فهو أوضح من تصدّى لقهر الطغاة بكتاباتهم التي جاءت واضحة مثل رواية "مائة عام من العزلة"، و"خريف البطريرك"، و"حفلة التيس" وغيرها من الروايات، التي قدمت للعالم طوال القرن العشرين، بعض أقوى الأعمال في هذا المجال.
إن أحد تجليات العمل الروائي أن يجعلك تتخذ موقفاً من الظلم، من الحياة، من الإنسانية، ولكن ما الذي يجعل من الديكتاتور مصدر وحي أدبي؟
إنها بلا شك طبيعته شبه الإلهية التي تتجاوز الحدود البشرية؛ لتكتسب طابعاً أسطورياً راسخاً عبر القرون.
لم أكن أعرف الكثير عن الدومينيكان ولا عن ذلك الطاغية إلا بعد أن قرأت رواية "حفلة التيس" والاحتفال بمقتل الطاغية "التيس"، لم أقرأ رواية مثلها في حياتي.
لقد فاق ديكتاتور غابريال غارسيا ماركيز الغارق في عزلته، وقد دفعتني الرواية لأن أحاول أن أعرف شيئاً عن ذلك الطاغية العنيد الذي مارس كل أشكال التنكيل لشعبه ومارس كل أنواع التأليه وعبادة الذات، إنهم بائسون، يعيشون في تحدٍّ يومي مع التاريخ، ومع الأوهام معاً، إنهم محرومون من المتعة التي يجدها الدهماء في قاعهم الاجتماعي؟
تعتبر رواية "حفلة التيس" للكاتب ماريو بارغاس يوزا واحداً من أجمل وأقوى أعمال هذا الأديب الذي تميز أسلوبه بالتركيب الخلاّق، وبحس السخرية البادي، تنطلق الرواية من أحداث حقيقية، يدمج فيها الكاتب أحداثاً وشخصيات متخيلة.
أما الخلفية الحقيقية فتتعلق باغتيال ديكتاتور جمهورية الدومينيكان، الشعبوي، رافائيل ليونيداس تراخيلو، الذي انتهت حياته كما انتهى حكمه الذي دام 31 سنة، في عام 1961، بفعل مؤامرة حِيكَت ضده وأدت إلى التخلص منه.
غير أن يوزا لا يعالج هذا الحدث التاريخي المعروف في شكل مباشر، بل مواربة، وتحديداً من خلال محامية أميركية من أصل دومينيكاني تدعى أورانيا كابرال، تعود إلى وطنها الأم بعد ثُلث قرن من مبارحتها له، حيث استقرت طوال تلك الحقبة في الولايات المتحدة؛ حيث عاشت (منذ كانت في الرابعة عشرة) وتعلمت ودرست المحاماة، من دون أن تقرر العودة إلى الوطن… وبسرعة هنا سنعرف لماذا: فهي كانت الابنة الصبية لواحد من كبار رجال الحكم المحيطين بتراخيلو والمخلصين له.
أما اليوم، فإن أورانيا تعود إلى معايشة أبيها المحتضر بعد كل تلك السنوات… ولكن بخاصة كي تطرح عليه عدداً من الأسئلة التي لا شك كانت تشغل بالها منذ زمن بعيد، وتتعلق بالديكتاتور الراحل وبحياتها العائلية وأكثر من هذا: بجبن أبيها أمام سطوة الديكتاتور… جبنه إلى درجة أنه لم يتمكن من الدفاع عن ابنته أمام فساد تراخيلو، بل آثر أن يسكت عما حدث لها، وظل ساكتاً وهي في الغربة تعيش حياتها وجرحها الدائم.
وسنكتشف في النهاية أن محاولة إغلاق هذا الجرح، هي ما أتى بأورانيا اليوم إلى هذا البلد بعد كل تلك السنوات.
في "خريف البطريرك" اعتمد غابريال غارسيا ماركيز أسلوب النقد اللاذع في سياق تناول الديكتاتوريات.
ولطالما تمتعت كتابته بنبرة أدبية يصف من خلالها عالم ديكتاتوريات أميركا اللاتينية المُذهل.
إنه عالم يطغى عليه الفساد، النميمة، الابتزاز، الاغتيالات، التصفيات وتعطّش مرضي للسلطة حوّلته العزلة إلى كبت، يسيطر هذا الحاكم على بلاده ذات البنية المتخلّفة، لكن أجمل ما في الرواية هو غرام الديكتاتور بملكة جمال الفقراء مانوال سانشيز.
يتداخل حب السلطة بافتتان الديكتاتور بتلك المرأة في رواية يسردها ماركيز برقّة ساخرة.
وبهدف تحقير صورة الديكتاتور الظالم، يُبرز ماركيز صورة جسد الحاكم المُفكّك التي يستخدمها الكاتب ليدمّر جمالية تلك الأسطورة، لقد نجح ماركيز في جعل القارئ يشتم رائحة الديكتاتور، بل ويلمسه بيده، من خلال اللغة التي استخدمها في وصفه؛ إذ تصف الرواية ما ارتكبه الديكتاتور طوال مدة حكمه من جرائم إبادة وقتل جموع من البشر بطريقة مبتدعة لا تخطر على بال أحد، وقد تمكن بفضل جرائمه من الاستمرار في الحكم طوال كل تلك المدة.
أما في "مائة عام من العزلة" فتناول ماركيز عائلة بوانديا التي تمتد على 6 أجيال في قرية ماكوندو الخيالية.
تندلع الحرب الأهلية، فيشارك فيها معظم سكّان القرية من خلال جيش المقاومة الذي يقوده الكولونيل أورليانو بوانديا.
في هذه الأثناء، يتم إعلان أركاديو قائداً مدنياً وعسكرياً فيتحوّل إلى ديكتاتور عنيف. يبرع ماركيز في عرض تحوّل أركاديو إلى حاكم متسلط؛ إذ إنه مجرّد أستاذ مدرسي يتولّى قيادة ماكوندو إثر رحيل الكولونيل أوراليانو بوانديا. فيصبح ديكتاتوراً مخيفاً جعل من تلاميذ صفه جيشاً.
ولدى بلوغ المحافظين السلطة، يلقى أركاديو نحبه قتلاً بالرصاص.
يجسّد أركاديو نموذج الديكتاتور المعزول الحاضر في أدب ماركيز. إنما عزلته هي جزء من عزلة معظم أعضاء عائلة بوانديا الذين يعيشون في قرية بعيدة عن الحداثة.
يُبرز لنا تحوّله من مجرد أستاذ مدرسي إلى ديكتاتور الوحشية التي تولّدها الحرب في نفوس الناس؛ إذ إن الإفراط بالعنف قد يجعل من المرء كائناً مستبداً وسلطوياً.
غالباً ما يتناول ماركيز الديكتاتور؛ لأن خياله تأثر بالأجواء السياسية بما أنه كان يسمع حكايات جدّه كولونيل الجيش الذي كان يخبره عن المجازر والملاحم الوطنية.
كما أنه تعرّف في طفولته على قصص الزعيم الليبرالي الأسطوري الجنرال رافاييل أوريب أوريب وهو من أبطال حرب الألف يوم.
وعلى النقيض من أدب أميركا اللاتينية التي تحتوي مكتبة كاملة وغنية جداً من الأعمال التي كتبت عن الديكتاتور وتناولته من جميع الجوانب، فكل كتّاب أميركا اللاتينية مشغولون بقضية الديكتاتور، بينما نحن لم تكتب عندنا رواية الديكتاتور بعد، فهل تساءلنا يوماً عن سبب خلو الأدب العربي الحديث من شخصية الديكتاتور، وهل من تفسير لتراجع اهتمام الأدباء العرب عن معالجة وتناول صورة الديكتاتور في أعمالهم؟ وهل هذا يعني أن اهتمام الأدباء العرب بالحرية ضعيف؟ وهذا هو السبب الرئيسي في الإشكالية، أن الأدب العربي الحديث لم يتناول الديكتاتور إلا في قليل من الأعمال، مع أن حياتنا السياسية امتلأت بحكام ديكتاتوريين، لا يقلون قسوة وعنفاً عن أولئك الذين عرفتهم بلدان أميركا اللاتينية، فوجدوا في الأدب مرآة صوّرت أحوالهم وأحوال شعوبهم تحت وطأة حكمهم، ومن جوانب كافة، ونعود لنسأل السؤال الاستنكاري المجحف: لماذا عجز الأدب العربي طوال القرن العشرين وحتى الآن عن تقديم أية إنجازات حقيقية لافتة في هذا المجال؟ ولماذا هو عندنا أدب صامت يلزم الأبراج العاجية ويحاول أن يولّي وجهه عن الواقع ويحرص على عدم الاحتكاك به،
وظل الأدباء العرب المعاصرون يشفون غليلهم من الديكتاتوريات التي حكمتهم من خلال تطفلهم على أدب أميركا اللاتينية رغم أن الثقافة العربية بدورها عانت من تكريس أنواع لا حصر لها من أشكال المصادرة والمنع، وإذا كانت البنية الاجتماعية والسياسية في أكثر من مكان قد رسخت لمفهوم الرأي الأوحد، غير القابل للنقاش، فإن الصياغة الواحدة والفريدة لمثل هذه البنية، إنما تتوافق وتأتلف مع تفسير واحد لا يقبل القسمة على اثنين، تفسير يحيل على الديكتاتورية التي طالت الفن والأدب، بمثل ما تغولت ضد أبسط الأشياء التي تتنافى مع أصول الديمقراطية والحرية، مع استثناءات قليلة من البعض الذين لجأوا إلى أسلوب "الإسقاط" في كتاباتهم بمعنى أنهم تناولوا الحاكم الديكتاتور بأسلوب غير مباشر أو بالرمز.
وهناك رواية "مجنون الحكم" للمغربي بنسالم حميش، عن الحاكم بأمر الله، كتبها من موقع معادٍ للديكتاتور، واختار نموذج الحاكم بأمر الله كمجنون للحكم، وربما هو النص المهم الذي كُتب بصورة مباشرة عن الديكتاتور.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.