ما تعلَّمتْه كندا من سمكة السلمون ونجحت فيه

عدد القراءات
3,534
تم النشر: 2018/04/27 الساعة 09:22 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/09/27 الساعة 06:49 بتوقيت غرينتش

عندما تخبو شمسُ الصيف فوق صفحةِ مياه البحيرات العظمى في كندا، تتهادى برودة الخريف بريشتها الباردة ملونةً أوراق القيقب بالأصفر والقرمزي، وتبدأ السناجب بحصد أكبر عددٍ من أكواز الصنوبر تَخزنها في بيوتها لتقتات عليها في أيام البرد القادمة، عندها تتسلّل رعشة الخريف إلى سمك السلمون في أعماق البحيرات العظمى مؤذنةً ببدء ملحمة الهجرة العظمى لأسماك السلمون.

تتجمع أسراب السلمون عند مصبات الأنهار تملأُ بطونها بالعوالق البحرية، ثم تسلك الدرب الصعب سابحة عكس التيار نحو أعلى النهر؛ حيث يبدأ موسم التزاوج والتكاثر، وبعد أن تفرغ النشوة المتدفقة في عروقها ترقد جثةً هامدةً على الحصى المرصوف أسفل النهر، جنباً إلى جنب مع البيوض الملقَّحة.

بعد أن تنقضي أشهر الشتاء الباردة تنبثق أزهار الربيع على ضفاف النهر معانقةً نسائم نيسان الدافئة، تنبثق أيضاً طلائع أسماك السلمون من أغشية بيوضها، تتراقص بحماسٍ في مياه النهر الدافئة، تملأ بطونها الصغيرة مما بقي من دسم أشلاء أسلافها المتحللة، وتسبح مع التيار نحو مهرجان الحياة الذي ينتظرها في البحيرات العظمى، تنتشر في مياهها اللازوردية التي اكتنزت بالعوالق الشهية التي نمت مجدداً بعد أن هاجر أسلافها، وهكذا تستمر دورة الحياة بانتظار ملحمة الهجرة العظمى في الخريف القادم.

إن السر في أن أسماك السلمون هي ملكة أعماق البحيرات العظمى بلا منازع وقدرتها على التكاثر والبقاء بقوة على الرغم من تقلب أمزجة الفصول الكندية والصيد الكثيف الذي يمتهنه سكان السواحل هو أن سمكة السلمون عرفت أن دورة الحياة حتمية وتناغمت معها، فها هي تطعم أجنتها الوليدة للتوّ من أشلاء أسلافها الدسمة، وتؤمن لها طريقاً سهلاً نحو أسفل النهر، وبذلك ضمنت بداية حياة غنية وسهلة وواعدة للجيل الجديد، وعندما تكبر هذه الأسماك الصغيرة وتبلغ خريف العمر تكون مدينة بالسداد للجيل القادم، وبذلك تستمر أسطورة سمك السلمون إلى الأبد.

إن المنظومة الإدارية في الدول الحديثة مثل كندا وغيرها تحاكي سمك السلمون في هذا التناغم وبضرورة تأمين انطلاقةٍ قوية للأجيال القادمة مستفيدة مما يتركه لها الأسلاف؛ حيث تنظر للأطفال على أنهم البراعم التي ستضمن استمرارية تطور المجتمع وعنفوانه، فهيّأت لهم أرقى الحواضن التعليمية والطبية، ودعمت برامج تشجيع الإبداع وصانت حقوقهم، ولا تألو جهداً لتوفر لهم بداية قوية سلسة تصب بالمحصلة في زخم تطور المجتمع وحيويته.

إن أكثر من نصف الضرائب التي يدفعها الكنديون تذهب لتغذية المنظومة التعليمية والصحية للأطفال، فضلاً عن المنح والهبات التي يدفعها المواطنون لدعم برامج التعليم وتشجيع البحث والإبداع، كما ويتمتع الأطفال بحماية أسرية ومجتمعية تصل حداً بليغاً وأحياناً قدسياً، فعلى سبيل المثال إذا قام شخص بالتدخين بجوار مدرسة ستداهمه الشرطة خلال دقائق، إذا لمست أي طفل حتى بوضع يدك على رأسه بدافع التحبب قد تتعرض للتحقيق، وإن كان هذا مبالغاً به بعض الشيء إلا أنه كفيل بالتذكير بالحرص على حماية الأطفال من سوء المعاملة بأشكالها.

إن تشجيع الشباب ودفعهم لشغل مناصب قيادية هو أيضاً ظاهرة من ظواهر الأنظمة الحديثة، فأغلب المناصب الفاعلة بالمؤسسات يشغلها الشباب المدعّمون بفريقٍ من الاستشاريين الكهلة الذين تنحّوا لفتح الطريق للقادمين الجدد، ويظهر ذلك جلياً هذه الأيام بتسليم رئاسة كندا لشاب مثل جستن ترودو، وفرنسا أيضاً حذت حذوها بانتخاب إيمانويل ماكرون ذي الأربعين عاماً والقائمة تطول. لم يتأتّ ذلك إلا بإيمان جوهري بأن القادة الشباب قادرون على دفع عجلة التقدم بهمم يافعة قوية، وسواعد متينة، وعيون تمخرُ آفاق المستقبل بشغف.

لكن الحال مغايرٌ في الدول المتأخرة والمتعثرة على طريق التطور كدولنا العربية؛ حيث تجد الكهول يتسلمون أغلب مفاصل صنع الفرار، من المثير للاشمئزاز أن زمام القيادة في أغلب دولنا العربية مقبوضٌ بأيدٍ مرتجفة لكهلةٍ بعضهم لا يقوى حتى على التحكم بانقباضات صمام مثانته، منتشرين من أعلى الهرم إلى أصغر مؤسسة حكومية، بينما يهمّش الشباب ولا يُشملون أثناء صياغة الإستراتيجيات وبناء المستقبل مع أنهم أهله وعماده.

وبذلك يجد الشباب العربي نفسه خارج المنظومة القيادية والإدارية، مما يعني من جهة خسارة المجتمع للطاقة الدافعة الضخمة لهذه الفئة، وبقاءه تحت همّة قيادات هرمة كل ما تبغيه هو بقاء الحال كما هو، مما يفرز مجتمعاً راكداً آسناً.

ومن جهة أخرى، تتوجه هذه الطاقات لوجهاتٍ بديلة كالهجرة للخارج أو الانخراط بعالم الجريمة وأوكار الإرهاب، وهذا يذكرني بمثل إفريقي يقول: "إن القرية التي لا تحتضن شبابها، سيحرقونها من أجل أن يستشعروا الدفء".

ما سبق من نقاشٍ لا يعني التقليل من احترام كبار السن أو الاستهانة بخبراتهم التي اكتسبوها في مشوار حياتهم، وإنما إعادة تموضعها لتكون من خلف القيادات الشابة تمدّهم بالخبرات وتضمن بقاءهم على الاتجاه الصحيح دون أن تعيق من تقدمهم، وبذلك يتم الجمع بين حماسة وحيوية الشباب وحنكة وخبرة الكهول.

لكي نغيّر من حال الترهل الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي يغلِّف عالمنا العربي يجب أن ننظر لشبابنا على أنهم مصادر طاقة يجب أن تستثمر، لا أن تهدر، ويجب أن يُفسح لهم مجال القيادة المبكرة، لعلَّ ذلك ينهي حالة "مكانك سر" ويبعث الحياة في الأجنحة لتحلق نحو المستقبل وتلحق بالركب الأممي نحو وجهات التنمية والتطور.

يبدو أن صنَّاع القرار في الدول العصرية تعلّموا جيداً من سمكة السلمون، فمتى سنتعلّم نحن؟

مدونات الجزيرة

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
عبدالحليم إبداح
طبيب بجراحة الدماغ
تحميل المزيد