هكذا نتحول نحن الأطباء إلى تجار

عربي بوست
تم النشر: 2018/04/26 الساعة 08:38 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/04/26 الساعة 09:58 بتوقيت غرينتش
Handsome mature doctor in white coat is looking at camera while standing with crossed arms in hospital corridor

أول درس حضرته عند ولوجي كلية الطب بفخر التلميذة المجتهدة التي حققت حلم أبويها، كان درساً ألقته على مسامعنا عميدة الكلية آنذاك، كانت كلماتها تترجم نبل المهنة التي اختارها أنبغ الطلبة وأكبرهم معدلاً وأشدهم انضباطاً، كنا مجرد تلاميذ لا نحسن التفكير جيداً، فتخيلنا أن دخول عالم الطب هو دخول لعالم الفضيلة والتسامح؛ لنكتشف بعد عمر طال وشعر سقط وتقصف، ثم انتفضت شيبة فيه يتيمة ساخرة من أفكار الصبى.

إن الطب ليس ملاذ الحالمين بالنبل ومد يد العون والشعارات الرنانة التي كانت تداعب حلم الطفولة فينا، على الأقل في دولتنا الجميلة هذه.

كان أول درس تعلمته أن الطب مهنة شريفة تقتضي شرف الضمير وشرف الجيب، وكان آخر درس خرجت به بعد ثماني سنوات دراسة وعذاباً، أن الطب ليس هدفاً؛ بل هو وسيلة لغاية كبيرة.. الثروة، ليس عيباً أن يسعى الإنسان للغنى، لكن العيب أن يسعى له عبر جراح وآلام وأمراض المعدمين.

نعم نحن دولة لا تتوافر على أبسط المعدات الطبية اللازمة، لكننا نمنح للبرلمانيين تقاعدات ثقيلة لمدى الحياة ولا نبالي.

نعم نحن لا نملك مركبات جراحية محترمة في أغلب المدن الكبيرة، لكننا مع ذلك ننظم مهرجانات خلال الصيف في كل هذه المدن بالملايين ولا نبالي، نعم فالمستضعفون لا تغطية صحية تحميهم فيتنقلون لسنوات من أجل إجراء صورة إشعاعية حتى تسلم الروح لبارئها، لكن في الوقت ذاته يمكننا أن نتبجح أمام العالم بأننا أجمل دوله ولا نبالي.. نعم نحن متناقضون جداً، لكننا سعداء بتناقضنا لدرجة أصبح الحلم المقدس لكل شبابنا "الهربة" والطوفان بعدها.. فنحن لم نعد نبالي.

الطبيب الذي يوضع في مستشفى أقرب للسجن من مكان للعلاج والاعتناء بمصاب أو مريض في عمق تجرده من كل شيء وحاجته لطبيب يعيد له إنسانيته بعلاجه واحترامه، هذا الطبيب تحت ضغط من أساتذة يمارسون دور الربوبية داخل مصالحهم وأجر هزيل لا يستطيع فتح بيت ولا توفير ضروريات الحياة، وأمام شريحة كبيرة من مواطنين أعماهم الجهل والفقر والتشرد والبلطجة، فأصبح المستشفى مكاناً ينفس فيه كل سكير أو صاحب سوابق عن غضبه، معرضاً حياة هذا الطبيب والعاملين معه للموت والعاهة الدائمة بنصل سيفه الذي يشهره داخل أروقة المشفى.

هذا الطبيب الذي يعيش كل يوم روتين الموت هذا.. ما الذي يتوقعه هذا الوطن منه، وهو المقموع الفقير المهدد في سلامته الجسدية والنفسية.. أن يصير قديساً يدعو للتسامح، أم تاجراً يتحين الكسب السريع بمجرد تخرجه كيفما كانت طريقة هذا الكسب، تطبيباً بنبل، أو تجارة بالطب.

يقول إدغار موغان، الفيلسوف الفرنسي الجميل، إنه إذا كان هناك مكان يجسد الإنسانية في كمالها فهو المستشفى، وإذا كان هناك مكان يجسد اللاإنسانية في بشاعتها فهو أيضاً المستشفى، فأي النوعين هو الذي عندنا؟!

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
جهاد بريكي
طبيبة مغربية
تحميل المزيد