ربما كان وزير الخارجية السوداني "المُقال" إبراهيم غندور يعلم أن البيان الذي أدلى به أمام المجلس الوطني (البرلمان)، ظهر الأربعاء الماضي، سيكون آخر خطابٍ له وهو على رأس الدبلوماسية السودانية.
ويمكن القول: إن غندور نال قدراً من احترام وتعاطف فئات عديدة من الشعب السوداني، تجلّى في التعليقات التي ضجّت بها مواقع التواصل الاجتماعي، فور صدور قرار إقالته مساء الخميس، بعد يومٍ واحد من بيانه الذي أقام الدنيا ولم يُقعدها.
لن نكثر من الخوض في الأسباب والتفاصيل، فالكل يعلم أن إطاحة إبراهيم غندور جاءت على عَجَل، فور تصريحاته التي اعتبرها البعض مسيئة للدولة، عندما اشتكى لرئيس البرلمان وأعضائه عن عدم صرف رواتب السفراء والعاملين بالسلكين الدبلوماسي والقنصلي لفترة 7 أشهر، موضحاً أنه رفع الأمر لرئيس الجمهورية ونائبه الأول اللذَيْن وجّها وزارة المالية والبنك المركزي بحل الأزمة دون جدوى، واعتبر غندور في حديثه أن ثمة نافذين يعتقدون أن صرف استحقاقات الدبلوماسيين ودفع قيمة إيجارات البعثات الدبلوماسية في الخارج ليس مسألة ذات أولوية.
بطبيعة الحال، تصريحات وزير الخارجية المُقال لم تكن "زلة لسان"، وليست خطأً غير مقصود؛ لطبيعة الرجل وهدوئه، فهو دائماً ما يحرص على إطفاء النيران التي تؤججها تصريحات المسؤولين السودانيين ــ كما سنكشف في هذا المقال ــ لذلك رأى كثير من المراقبين أن الرجل قَصَد ما جاء على لسانه، رغم الصدمة التي أفرزتها تصريحاته، والتي تفسَّر باحتمالين اثنين لا غير:
أولهما: أن خزائن بنك السودان المركزي خاوية على عروشها تماماً، ولا يوجد بها مبلغ بسيط مثل الـ30 مليون دولار، قيمة استحقاقات الدبلوماسيين وإيجار مباني السفارات والممثليات السودانية بالخارج.
وهذا ما يعني إفلاس الدولة رسمياً وعدم مقدرتها على سداد أبسط الالتزامات المالية.
الاحتمال الثاني: أن المبلغ موجود، ولكن وزارة المالية ومحافظ البنك المركزي يتجاهلان توجيهات رئيس الجمهورية ونائبه الأول لسببٍ ما أو آخر.
وهذا بالطبع أمرٌ لا يقل خطورةً عن الاحتمال الأول، فهو يعني أنه لا سلطة حقيقية للرئيس ولا لرئيس الوزراء أمام المسؤولين الأدنى درجة منهم.
تراكمات عديدة
أيّاً كان السبب، فإن الكلمات التي تفوَّه بها غندور أمام البرلمان لم تكن وليدة الصدفة، بل نتيجة لعدة تراكمات منذ أن تولى الرجل حقيبة الخارجية في العام 2015، فقد اصطدم منذ البداية بالمدير السابق لمكتب الرئيس عمر البشير، طه عثمان، الذي كان تمدده وطموحه يثير غضبة البروفيسور غندور والسفراء؛ إذ كان البشير يكلفه بنقل خطابات رسمية إلى قادة دول خليجية في تجاوزٍ واضح لوزارة الخارجية، كما ظلّ عثمان يتفاخر في حواراتٍ صحفية ينسب فيها إلى نفسه أنه نجح في إصلاح علاقات السودان بدول الخليج (السعودية والإمارات)، بل وصل مدير المكتب السابق إلى أبعد من ذلك، عندما قال إنه قام بترتيب زيارات لـ20 من قادة دول إفريقيا إلى المملكة العربية السعودية!
سبق ذلك، أن طه ــ الذي ترقّى بسرعة الصاروخ إلى رتبة "فريق" في جهاز الأمن والمخابرات ــ أقنع الرئيس عمر البشير، مطلع العام 2016، باتخاذ قرار قطع العلاقات مع إيران، من دون أن يشاور الأخير وزير الخارجية أو حتى يخطره، فقد تردد، آنذاك، على نطاقٍ واسعٍ أن غندور سمع من وسائل الإعلام بقرار قطع العلاقات الدبلوماسية مع طهران، وكل المؤشرات تدل على ذلك؛ لأن مصدر الخبر كان وكالة الأنباء السعودية التي ذكرت أن ولي ولي العهد محمد بن سلمان تلقّى اتصالاً هاتفياً من مدير مكتب الرئيس السوداني طه عثمان، يبلغه فيه بقرار الخرطوم قطع العلاقات مع إيران.
وظهر التنافر على أشده بين الرجلين فور إصدار الرئيس الأميركي السابق قراراً برفع العقوبات الاقتصادية عن السودان جزئياً، حينها مارَسَ طه عثمان هوايته المفضلة وتصدّرت صوره وتصريحاته صحف الخرطوم التي كانت تتسابق لنيل رضائه، نسبةً للنفوذ الكبير الذي كان يتمتع به، لدرجة أن البعض كان يعتقد أنه الحاكم الفعلي للسودان لصلته وتأثيره القوي على البشير.
وعندما أعفى الرئيس السوداني مدير مكتبه طه عثمان في ظروف غامضة العام الماضي، تنفّس غندور الصعداء وظنّ أن الجو خلا له للعمل في الملفات المرهقة التي تنوء بها وزارته، مثل ملف الحوار مع الولايات المتحدة لإزالة اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، فضلاً عن قضية حلايب، والعلاقات المتوترة مع عدد من دول الجوار، كمصر وإريتريا، بجانب موقف السودان من الأزمة الخليجية.
لكن الرئيس البشير تدخل مرة ثانية، وسحب بعض الملفات من وزارة الخارجية، فقد أسند مهام العلاقات مع تركيا وروسيا والصين إلى مساعده عوض أحمد الجاز، وهي الخطوة التي دعت إبراهيم غندور لتقديم استقالته فور مغادرة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بعد أن أنهى زيارة ناجحة إلى السودان.
غير أن البشير رفض استقالة غندور وأيّده في ذلك القرار عدد من قيادات الحزب الحاكم، فقبل وزير الخارجية المُقال الاستمرار في عمله على مضض.
وقبل أردوغان، شكّلت زيارة نائب وزير الخارجية الأميركي جون سوليفين حلقة جديدة من حلقات التنافر بين الرئيس ووزير خارجيته؛ إذ تحاشى المسؤول الأميركي الرفيع الالتقاء بعمر البشير، مكتفياً بمقابلة نائبه بكري حسن صالح وإبراهيم غندور، تلك المقابلات تسرّب منها أن الإدارة الأميركية تحبّذ إبعاد البشير من الرئاسة في 2020 لأجل رفع اسم السودان من قائمة الإرهاب، وهو ما خلق مزيداً من التوتر في علاقات الرجلين.
رجل إطفاء الحرائق
يُنظر إلى غندور على أنه كان يقومٍ بدورٍ قريب من الدور الذي لعبه وزير الخارجية الأميركي السابق ريكس تيلرسون، فالأخير كثيراً ما تدخّل لإطفاء الحرائق التي كان يشعلها الرئيس ترمب بتصريحاته المثيرة للجدل.
وفي السودان أيضاً ــ مع مراعاة الفارق بين واشنطن والخرطوم بالطبع ــ عمل غندور على امتصاص صدمة تصريحات البشير أكثر من مرة، أشهرها تصريحه المثير للجدل عندما طلب من نظيره الروسي فلاديمير بوتين الحماية من الضغوط والتدخلات الأميركية.
حينها اضطر إبراهيم غندور للقول: "البشير جنرال وعسكري شارك في حماية السودان أثناء الحرب الأهلية في الجنوب، وله مواقف مشهودة، ورئيس معتق يتميز بالشجاعة، وبالتالي، فإن رجلاً بهذه الصفات لا يمكن أن يطلب حماية عسكرية".
ويعتقد عدد من المراقبين أن غندور هو عرّاب سياسة الحياد في الأزمة الخليجية والحفاظ على مسافةٍ واحدة من قطر في جانب والسعودية والإمارات في الجانب الآخر؛ إذ إن البشير كان على وشك اتخاذ موقف مناهض لقطر في بداية الأزمة، فقد زار السعودية والإمارات عدة مرات وكثّف الاتصالات معهما، بينما لم يزُر قطر إلا بعد أكثر من 4 أشهر من تفجر النزاع.
وكان قرار الحكومة السوادانية في الحفاظ على الحياد لم يكن سهلاً، فقد وقعت تحت ضغط شديد من الدول التي تحاصر قطر لأجل قطع العلاقات مع الأخيرة، لكن غندور نجح في إقناع البشير والحزب الحاكم بانتهاج سياسة الحياد، وعدم الانجراف مع تيار المقاطعة رغم الإغراء والضغوط.
استفتاء مبكّر على شعبية غندور ودعوات لترشحه
فوجئ الكل بالتعاطف الكبير الذي وجده وزير الخارجية السوداني المُقال فور صدور قرار الإطاحة به من الوزارة، وتحسّر كثيرون على أن صراحة الرجل هي التي دفعت به خارج الكرسي، في حين يبقى المسؤولون الذين لا يعترفون بوجود الأزمات مثل وزيرَي المالية والنفط.
كما دعا عدد من رواد مواقع التواصل الاجتماعي على تويتر وفيسبوك إلى ترشيح إبراهيم غندور لمنصب رئيس الجمهورية عام 2020، معتبرين أنه رجل ذو كفاءة وهيبة أعاد للدبلوماسية السودانية مكانتها واحترامها، ويستحق أن يقود البلاد وينتشلها من الأوضاع الحالية.
أبرز المرشحين.. وأهم الملفات
يعتقد أن وزير الكهرباء الحالي معتز موسى هو أقرب الشخصيات التي يمكن أن تخلُف إبراهيم غندور، فالأول عمل دبلوماسياً لفترة سابقة في وزارة الخارجية، ثم إنه متابع جيد لملف العلاقات مع مصر، بالإضافة إلى ملف سد النهضة الذي يقود وفد السودان في مفاوضاته.
بينما يرى آخرون أن الأقرب للمنصب وكيل وزارة الخارجية السابق مطرف صديق، أو سفير السودان لدى دولة الإمارات محمد الأمين الكارب، أو ربما بكري عثمان سعيد مدير جامعة السودان العالمية.
أياً كان القادم الجديد إلى حقيبة الخارجية، فمن المؤكد أنه سيواجه بملفاتٍ عصية كملف العلاقات مع الولايات المتحدة الأميركية والغرب بشكل عام، خصوصاً أن أعضاء لجنة الحوار مع واشنطن قد بدأوا يغادرون مناصبهم منذ أشهر، من محمد عطا المولى مدير جهاز الأمن السابق ، ومصطفى عدوى رئيس هيئة الأركان المشتركة السابق، بالإضافة إلى محافظ بنك السودان السابق عبدالرحمن حسن، وبالطبع آخرهم وزير الخارجية المُقال إبراهيم غندور.
تنتظر الوزير الجديد قضيتا حلايب وسد النهضة اللتان ترتبطان بالعلاقات مع إثيوبيا ومصر؛ إذ نجح غندور بمهارةٍ في الحفاظ على التوازن الذي اشتهر به، فقد جعل سياسة السودان الخارجية غير متحيزة لأحد، فالخرطوم صديقة لتركيا وليست عدواً للإمارات، علاقاتها جيدة مع قطر والسعودية على حدٍ سواء، مع إثيوبيا في سد النهضة، ولكنها ليست ضد مصر في الوقت نفسه.
علاوةً على ذلك، يفترض أن يُسهم وزير الخارجية الجديد في معالجة الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالبلاد وتضعها على شفا انهيار كامل، رغم تكذيب المسؤولين، فالأزمات تحيط بالحكومة ولا يمكن إنكارها، فهناك ارتفاع جنوني في أسعار الخبز والدواء، وشح في الوقود والسكر، وأزمة مستفحلة في السيولة واقتراب قطاع المصارف من إعلان الإفلاس.
إن اتفقنا مع غندور أو اختلفنا معه، سيظل في نظر الكثيرين واحداً من أميز وزراء الخارجية الذين مرّوا على تاريخ السودان، إلى جانب مبارك بابكر زروق، وابن بلدته الأديب والمفكر محمد أحمد المحجوب، والمخضرم منصور خالد.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.