في غرفة العنكبوت.. كيف تكسر التابوهات دون ابتذال؟

عدد القراءات
2,704
تم النشر: 2018/04/24 الساعة 09:12 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/04/24 الساعة 14:36 بتوقيت غرينتش

تعودنا في الآونة على الأخيرة على "موضة" كسر التابوهات، كتب عن السحر والإلحاد وعبادة الشياطين، فيلم عن زنا المحارم، وثائقي عن السحاقيات، وهكذا… وفي معظم الحالات تجد أن الغرض هو إثارة الجدل ولفت الانتباه لا أكثر؛ إذ يعمد الكاتب/المخرج/المصور إلى تجاهل مناقشة صلب الفكرة أو الإشكال المطروح بطريقة موضوعية، مفضّلاً التركيز على القشور المسايرة لـ"الموجة" السائدة، بشكل يدعو للنفور والاشمئزاز، ونادراً ما تصادف مَن يقدم الموضوع (أي موضوع) بطريقة راقية وعميقة، بعيداً عن السوقية والابتذال.

سمعت الكثير عن رواية "في غرفة العنكبوت" لصاحبها محمد عبد النبي، التي صدرت قبل سنتين عن دار العين المصرية، ووصلت السنة الماضية إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر)، ولا أنكر بأنني استغربت هذه "الجرأة" في نشر رواية تتناول واقع المثليين في بلد شرقي محافظ كمصر، وبطريقة مباشرة، عكس روايات سابقة تناولت الموضوع ربما ولكن بشكل هامشي أو ثانوي، أتحدث هنا عن "عمارة يعقوبيان" و"نادي السيارات" (المفارقة أنهما لكاتب واحد هو علاء الأسواني)، وربما صنفت العمل مباشرة على أنه ينتمي إلى الفئة المبتذلة إياها قبل الاطلاع عليه حتى، لكنني سرعان ما تذكرت أن الصياد الحاذق لا يبيع جلد الدب قبل صيده، وأنني مطالب بقراءة الرواية كلمةً كلمةً مع تجنّب إصدار حكم نهائي حولها قبل الوصول إلى الصفحة الأخيرة.

ينطلق الكاتب في روايته هذه من حادثة واقعية شهيرة هزّت مصر سنة 2001، وعرفت باسم حادثة "كوين بوت"، عندما احتجزت الشرطة المصرية عشرات المثليّين في الملهى الليلي العائم كوين بوت، وألقت القبض على عشرات آخرين في مناطق أخرى، وقدمتهم للمحاكمة أمام محكمة أمن الدولة بتهمة ممارسة الفجور، قبل أن تتطور القضية لتتحول إلى ازدراء الأديان بعد حديث أحد المخبولين عن نشر دين قوم لوط والكردي الذي سيهزم الأتراك، ويسيطر على العالم، إلى آخر هذا الهراء، وقد دخلت وسائل الإعلام ومنظمات حقوق الإنسان على الخط، ما منح القضية بُعداً دولياً، خصوصاً بعد إصرار المتهمين على القول بأنهم لم يحظوا بمعاملة لائقة، وأنهم تعرضوا للتعذيب في السجن، وبعد الإفراج عنهم فضّل معظمهم مغادرة البلاد، أو الزواج والانزواء بعيداً عن الآثار المدمرة للفضيحة.

هاني محفوظ، بطل الرواية وسارد الأحداث، الشاب المدلل وابن الممثلة المشهورة، ألقي القبض عليه في حملة الاعتقالات هذه، وقضى في السجن سبعة أشهر كاملة فقد فيها القدرة على النطق، ففضّل بعد الإفراج عنه الاحتماء بصديقه العجوز "البرنس" في فندقه، ومصادقة عنكبوت صغير في غرفته، ثم العمل على معالجة نفسه بالكتابة، مستعيداً أطوار حياته الغريبة من البداية.

هي إذن، وببساطة شديدة، رواية عن إنسان بميول جنسية شاذة، عن علاقته منذ صغره بمحيط أسرته وتربيته وطريقة عيشه، كيف تطورت طريقة تفكيره مع توالي مراحل حياته، من صبي ومراهق مهووس ومريض إلى "رجل" ناضج يدفعه ضغط والدته وشكها في حقيقته "الغامضة" إلى توريط زميلة له في العمل والزواج منها ثم الإنجاب بما يخالف "ميوله"، قبل تعرضه للمأساة المدمرة التي دفعت ثمنها زوجته وابنته البريئة التي لا ذنب لها في كل ما حصل.

لم يكن البناء الروائي للعمل كلاسيكياً، بل اعتمد هنا على الخط الزمني العكسي والانطلاق بالعودة إلى الخلف، فمنذ البداية نعرف أن البطل تم إلقاء القبض عليه في الفضيحة التي أشرت إليها آنفاً؛ لتسير الأحداث بعد ذلك في خطَّين متوازيين، بين سرد الراوي هاني محفوظ لأطوار حياته منذ طفولته حتى بلوغه الأربعين وما واكب ذلك، وتطرقه لتفاصيل اعتقاله وسجنه وما رافق ذلك من مهانة واحتقار وربما تعذيب نفسي وجسدي، ثم مغادرته للسجن وصعوبة تعايشه مع واقع جديد فقد فيه كل شيء، حتى قدرته على النطق.

يمكن القول بأن بناء الشخصيات وتصوير تفاصيل حياتها كان مقبولاً إلى حد ما، سواء فيما يتعلق بالسارد هاني محفوظ، أو بباقي الشخصيات، خاصة البرنس أكثم، العجوز الغامض الذي يمتلك فندقاً ويبذل كل ما في وُسعه للدفاع عن "الحبايب" كما سماهم هاني، هذا الأخير الذي صور حياة المثليين وعوالمهم الغامضة بطريقة رهيبة لم تغفل أي تفصيل مهما بلغت تفاهته، وإن بدا واضحاً أن الكاتب يحاول تصوير الشخصيات من منطلق مثليتها فقط، كما لو أن المثلي ليست لديه سوى مثليته، أو أن المثلية وحدها كافية لحياة كاملة.

جاءت لغة العمل شاعرية وسلسة في الآن نفسه، ابتعدت عن الابتذال ولم تكن مرهقة للقارئ، ورغم تضمن الحوارات العامية لبعض الكلمات النابية، فإنها جاءت ضمن السياق الروائي ولم تكن بغرض الاستعراض أو الحشو غير المبرر.

تميز السرد أيضاً بنوع من السلاسة (رغم بعض التطويل والتمطيط الطفيف من حين لآخر) فإنه كان قوياً وقادراً على جذب القارئ من أول صفحة إلى آخر كلمة في الرواية دون إملال، وأعتقد أن الكاتب تفوق في هذه النقطة التي وضعتني أمام تناقض غريب، فقد شعرت عدة مرات بالانقباض وأنا أقرأ بعض المقاطع التي وصف فيها هاني حقيقة ميوله وعلاقاته الشاذة، ما دمنا نتحدث هنا عن ظاهرة صعبة التقبل في مجتمعاتنا، إلا أنني رغم ذلك واصلت القراءة بنفس الحماس الذي جعلني أكمل الـ354 صفحة في أقل من 24 ساعة.

على أية حال، يمكن القول بأن "في غرفة العنكبوت" رواية "جيدة" إلى "ممتازة" سردياً، كشفت علو كعب كاتب شاب ومحترف، يكتب أعماله بطريقة مميزة وحديثة، مع بعض التحفظ الطبيعي على الموضوع الأكثر من حساس في مجتمعاتنا.

صحيح أنني أخذت فكرة عن عالم المثليين المحاط بالسرية والغموض في مصر (وربما يمكن إسقاط الوضع على دول المنطقة جميعها)، إلا أن هذا لم يدفعني بأي حال من الأحوال للتعاطف مع بطل الرواية وأقرانه رغم تقبلي لفكرة وجودهم في واقع أخرق (واقع لا أعتقد بأن المثلية أول اهتماماته في قائمة تتصدرها الأمية والقمع والفقر وغلاء الأسعار و.. و..) يعيشه كل مواطني بلداننا المقهورة بـ"شواذها" و"أسويائها"، وحدها الطفلة البريئة بدرية (التي دمرت حياتها رغم أنها لا علاقة لها بفضيحة والدها) من نالت تعاطفي حقاً، كما أن أسلوب الكاتب وسرده الجميل سيدفعني بالتأكيد للبحث عن أعمال أخرى له تناول فيها مواضيع أخرى.

مدونات الجزيرة

 

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
عبدالمجيد سباطة
كاتب مغربي
تحميل المزيد