على مدار سنوات عديدة، حاولت التفكير فيما يمكن أن تعنيه الكتابة بالنسبة لي، أبحث في المعاجم عن معناها، ثم أذهب في جولةٍ أكاديميةٍ لعلّها تخبرني بالإجابة! لكنني أدركت فيما بعد أنّه لا يمكن لأحد أن يخبرك بمعنى الكتابة؛ فإمّا أن تدركه بمفردك في الرحلة أو لا، فالكتابة ليست فعلاً أكاديمياً يسهل الإمساك به وتعريفه، الكتابة هي أرواحنا وقلوبنا حين تتكلم.
أعرف أنّ لكل قلبٍ حكايته الخاصة، لغته التي يتكلّم بها، والتي يحتاج إلى الآخرين ليشاركهم إياها عبر الكتابة، أقول هذه الكلمات لنفسي وأنا أفكر في شغف الكتابة، تلك اللحظات التي أقضيها مداعباً أحرف الكيبورد في محاولةٍ لخلقِ نصّ جديد، يغلبني أحياناً فيأبى الخروج، وأغلبه في نهاية الأمر؛ فأزرع فيه من روحي ليخرج.
وماذا لو كنت أخدع نفسي ولا أجيد الكتابة؟ في حياة كل كاتب لا بد أن يُطرح هذا السؤال، لا سيّما إن كنت واحداً من هؤلاء الذين نادراً ما يشعرون بالرضا عن نصوصهم.
لأجدني أفكر مباشرةً في أنني أمارس الكتابة بسبب حبّي الشديد لها، وهذا ما يدفعني نحو الاستمرار لا أي شيءٍ آخر، فكل نصّ يمثل حالة فريدة، الكنز في الرحلة، كما يقولون، ونحن معشر الكتاب كنزنا في محاولة خلق النص، فإذا انتهى النص شعرنا بأننا نودع صديقاً قديماً، لا نريد لتلك اللحظات أن تنتهي.
نحن الذين يحرّكهم شغف الكتابة لا نهتم فقط بما يقوله الناس عن النص، لكن يهمنا رحلة النص ذاتها، فنحن نكتب بحثاً عن أنفسنا قبل الآخرين.
نجد في آراء الآخرين تذوقاً لكلماتنا، نتقبل النقد بصدرٍ رحب، لكننا نبحث عن الجمال فيه قبل أي شيء، لعلّه يضيف جمالاً إلى أرواحنا.
عندما أكتب أكون قادراً على التخلّص من كل شيء، تجاوز المشاعر السلبية التي تداهمني، وأملك القوّة اللازمة لفعل ما أريد، متحلياً بالشجاعة التي تمنحني إياها الكلمات، فكل نص نكتبه تعبيراً عن أرواحنا، نعلن فيه قدرتنا على مواجهة العالم بكل ما فيه، نعيد اكتشاف أنفسنا، ونتسلّح بالكلمة التي يمكنها أن تقهر كل الحزن في داخلنا، وفي بؤس هذا العالم.
تقول رضوى عاشور في تعبير صادق جداً عن محاولاتنا للتعرّف على الحياة من خلال الكتابة: "أكتب… لأنني أحب الكتابة.. وأحب الكتابة… لأن الحياة تستوقفني، تُدهشني، تشغلني، تستوعبني، تُربكني وتُخيفني وأنا مولعةٌ بهـا."
أعود بالذاكرة إلى اللحظات التي بدأت فيها الكتابة، وكنت أتساءل: إلى أين يمكنني أن أصل في هذا العالم؟ وهل سوف تستمر الرحلة؟ وهل يمكن أن أشعر بالملل فيها في يومٍ من الأيام؟
اليوم، وبعد أن كتبت أكثر من 300 مقال في مواضيع مختلفة، أشعر بأنّ هناك العديد من الأفكار بداخلي، وأنني ما زلت في بدايتي في هذا العالم لم أكتب شيئاً بعد، أعرف أنّ هناك المزيد من الكتابة ينتظرني، وأنّ شغف الكتابة يحركني إلى الأمام دائماً، فلا يقف أو يهدأ على الإطلاق.
ماذا يحمل لنا الغد؟ لا أعرف، هل سأكون قادراً على كتابة نصوص جديدة؟ سؤال يطرح نفسه لدى كل شغوفٍ بالكتابة؛ خوفاً من أن نكون قد بلغنا النهاية دون أن ندري، لكنني لا أهتم بذلك الآن! فكما يقول الكاتب نيل غيمان: "غداً قد يأتي الجحيم، لكن اليوم كان يوم كتابة جيد، وفي أيام الكتابة الجيدة، لا شيء آخر يهم".
وأعتقد أن ما كتبته اليوم يكفي حالياً.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.