اسمي عادل.. ورقمي خمسون ألفاً وواحد

عربي بوست
تم النشر: 2018/04/24 الساعة 08:49 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/04/24 الساعة 10:12 بتوقيت غرينتش

اسمي عادل، ورقمي خمسون ألفاً وواحد، وعمري 43 شظية، موزّعة بين رأسي وظهري وأجزاء بسيطة من قدميّ.

أنفاسي توقفت منذ قليل، تحاول عياني الإبصار لكن دون جدوى.. مفتوحتان إلى السماء كما لو أنهما وجدتا ما تبحثان عنه. شريط حياتي الطويل يعرض أمامي سريعاً سريعاً.. أشياء أخجل منها وأشياء أتمنّى لو عُدت لأكملها.. صور أهلي وأصدقائي تُعرض عليَّ.. وصورة عُمَر.. عمر يضحك بشكل جنوني لم أعهده فيه من قبل.

أما القلب.. القلب المسكين الذي عانى لأعوام ارتاح الآن.. وتوقف.. هذا كل ما أنا عليه الآن، أو هذا كل ما يُحكى.

في التاسعة من عمري، شهدت حارتنا أضخم احتفالية عرفتها. حواجز حديدية تابعة للدولة أغلقت مداخل الحارة. نُصبت أضواء عالية وقوية كافية لاستهلاك كهرباء الدولة بأكملها.. استحال الليل نهاراً، وجاءت سيارات ورد وزينة وطعام وحلويات ومتعهدو حفلات من أرقى أماكن الدولة. كانت حفلة زواج عليّ، ابن سيادة العميد جميل.. العميد الذي كان يعمل في الجيش، كما أخبرني أبي، لكنني عرفت بعد سنوات طويلة أنه كان يعمل في جهاز المخابرات.

لا أعلم حتى اليوم لماذا أخفى عنّي أبي هذه التفصيلة الصغيرة من حياة العميد جميل.. ما الفرق بين الجيش والمخابرات؟ هل كلمة "المخابرات" شتيمة مثلاً؟

لم يكن "العميد جميل" جميلاً أبداً.. كان أسمر الوجه، عريض الكتفين قصير القامة، وله كرش يسعني مع 3 مثلي دفعة واحدة. يده اليسرى كانت دائماً تحمل سيجارة، غالباً ما تكون من النوع المحليّ الرخيص.. لكن أحياناً كان يدخن "مارلبورو" أحمر. أما يده اليمنى فتوزعت مهامها بين اللاسلكي وتعديل نظارته الشمسية أو الحديث في الهاتف. وباقي الوقت.. كان يضع يده اليسرى على كرشه الكبير تباهياً أو تفاخراً.. أو يحمله خشية أن يسقط.

وصل العريس عليّ.. كانت زفّة طويلة مهيبة شاركت فيها سيارات عسكرية ومدنية فخمة لم أميّز معظم أنواعها الفارهة. كانت سيّارة العريس مرسيدس سوداء مفتوحة السقف. نزل عليّ وتوجه إلى باب العروس.. فتح وأنزلها، ولما نزلت توجه العميد جميل إليهما، وقف أمامهما.. سحب نفَساً عميقاً من سيجارته.. أخرج مسدساً فضياً يلمع كما لو أنه لم يستخدم أبداً من قبل، وأفرغ منه تسع رصاصات دفعة واحدة.. كان صوتها عالياً دوّى في كلّ الحارة. كنت أظنها الطلقات الأولى والأخيرة.. ولم أكن أعلم أنها إشارة البدء فقط!

انطلقت بعد ذلك حفلة من الرصاص.. كان الجميع مسلحاً تقريباً. أقلهم كان يحمل مسدساً على جنبه أو تحت إبطه. بعضهم أخرج بنادق طويلة سوداء من صندوق السيارة الخلفي.. بنادق حديثة لم أرَها في حياتي.. لعلعَ الرصاص عالياً. تحولت السماء إلى خطوط من نار واستحالت ظلمة الليل إلى سماء مضيئة.. تحولت الحارة إلى ساحة معركة.

قبل هذا العُرس بأيام، قُتل ابن جيراننا في هجوم على أحد المخافر. كان شرطياً عادياً يناوب في أحد المخافر النائية. كانت منطقة ذات طابع عشائري. في ليلة ما، قبضت الشرطة على أحد المجرمين ينتمي لقبيلة ما أثناء تهريبه الحشيش، وأودعته السجن بنيّة تحويله في الغد إلى العاصمة.

لكن لمّا حلّ الليل هجمت العائلة على المخفر الذي لم يكن فيه إلا أربعة أو خمسة عناصر، قُتل ابن جيراننا وجُرح آخر.. استطاعت العائلة تحرير ابنها والعودة به إلى بيته.

كان المخفر وقتها لا يملك أسلحة وذخيرة كافية للدفاع.. هكذا قيل.

الآن استحضرت ذاكرتي هذه القصة لأسأل: "أين تلك الذخيرة التي تُطلق في العرس الآن من الدفاع عن المخافر؟ هل توزع الذخيرة على المخابرات فقط؟"، كان عقلي الطفل يسأل أسئلة غريبة.. أسئلة نفقدها مع تقدم الزمن.. كلما تقدمنا في العمر يتخلص الإنسان من الأسئلة التي لا يعرف لها جواباً، أو تلك التي تعجزه إجابتها، أو لأنه لا يريد سؤال نفسه ذات السؤال كل مرة!

في ساحة العرس، ووسط إطلاق النار.. كان معي عمر.. أخي الأصغر ابن الأعوام الثمانية. كانت ابتسامة عمر تصل بين أذنيه، على عكسي؛ إذ كنت أمسك ما بين فخذي خشية أن أتبول على نفسي.

كان عمر ينظر إلى الرصاص كأنه ألعاب النارية، فيما كنت أحسّ أن كل رصاصة تدخل من أذني اليمنى وتخرج من اليسرى.

كان اختلافاً استراتيجياً بيننا حول الحدث. نعم أعترف أمامكم أنني الطفل الذي كاد يتبول على نفسه خوفاً من الرصاص.. مَن منكم لا يخاف الرصاص؟ عمر كان لا يخافه!

فوارغ الرصاص تنزل كالمطر على الأرض. يركض عمر إليها ليجمعها، ولا أدري لماذا.. ما الذي يفعله طفل بفوارغ رصاص؟ طوى عمر بزّته التي كان يلبسها إلى أعلى.

كان لونها أبيض مع رسمة لفيل صغير، طواها إلى الأعلى فأصبحت مثل جيب الكنغر.. وبدأ يضع فوارغ الرصاص فيها، خلال دقائق جمع عشرات الفوارغ.

كنت أصيح عليه: "عمر.. عمر" دون أن يلتفت.

كنت أبحث عن انسحاب تكتيكي من العرس الذي تحوّل إلى معركة، وكان يبحث عن مزيد من التوغّل أملاً في مزيد من غنيمة فوارغ الرصاص.

استمر إطلاق النار 15 دقيقة، وما فتئ عمر يبحث عن غنائمه، ظل يبحث عن حلمه الكبير الذي سيتعبه ويتعبني أكثر. وما زلت أحاول الصراخ عليه للعودة إلى المنزل، جربت أن ألتقط واحدة من فوارغ الرصاص، لكنّ حرارتها كادت تحرق يدي.. كيف يتحملها عمر؟! سألت نفسي، كما أسألها كثيراً عن الأشياء التي يفعلها عمر ولا أقدر عليها؟

"عمر.. ماما رح تخانقنا هلأ.. يلا نرجع".. وفي لحظة إلهية نظر عمر إليّ وسمع ما قلته.. وقرر الانسحاب فعلاً.. كان جيب الكنغر الذي صنعه بسترته قد امتلأ عن آخره بفوارغ الرصاص.. حتى كلتا يديه امتلأت.

سعادته لا توصف، كما لو أنه حفر في أرض فأخرج كنزاً من ذهب ويعود به الآن إلى المنزل. أشار لي من بعيد أن حان وقت الانسحاب. كنت أبعد عنه خطوات فتحركت مبتعداً عن وسط الحفل إلى باب البيت لكنه تأخّر عني، نظرت خلفي فوجدت فوارغ الرصاص التي جمعها عمر متناثرة على الأرض.. ونافورة من الدم تتصاعد من رأس عمر.. كانت رصاصة طائشة قد أردَته. طائشة؟ لا أدري حتى اليوم إن كان بإمكاننا أن نصف كل هذا الرصاص بكونه طائشاً!

ركض أبي بعمر إلى المشفى، وبقيت أنا متسمّراً في مكاني. أنظر في دم عمر الذي يعبق به المكان. كانت أول مرة أرى دماً بهذه الكمية على الأرض. كان الدم مختلطاً بفوارغ الرصاص التي جمعها عمر.. ورغم خوفي الذي أخبرتكم به، فإن منظر الدم لم يرعبني. ربما كنت أنظر إليه كما لو أنه شيء من عمر.. ولا شيء فيه كان يخيفني. طويت سترتي كجيب كنغر كما كان يفعل عمر، وبدأت أملأه. رحت أجمع الفوارغ واحدة بعد أخرى. أصبحت الفوارغ أثقل الآن، اختلطت بالدم، بل امتلأت به.

ولد عمر أخرس.. لم ينطق كلمة واحدة في حياته. لكننا كنا معاً دائماً. لم أشعر يوماً بأن عمر يختلف عنّي في شيء. تعلمنا لغة الإشارة معاً.. وكنت أراها أفضل من اللغة التي نحكيها. ألّفنا أنا وعمر حركات خفيّة لا يفهمها غيرنا، واخترعنا مزيجاً من حركات اليدين والجسم وحتى الأعين، حتى صار حديثنا كله مشفّراً. كنا نتحدث أمام العائلة لساعات بالإشارات دون أن يفهم أحد أي شيئاً. كانت لذلك لذة حقيقية، كنا نلعب معاً ونذهب إلى المدرسة معاً ونصلّي معاً ونأكل معاً. لم تكن حياتنا بالطبع كلها على وفاق، لكن الخلاف لم يكن ليفرّق بيني وعمر.

مرّت ساعتان ولا أزال في مكاني.. دمٌ أحمر على الأرض.. تجلّط بعضه وما زال بعضه سائلاً. حتى جاء أحد أقارب العريس ووضع فوقه سطلاً من الرمل. هنالك صرخت عالياً، كما لو أنه صب الرمل على عمر. كما لو أنه دفنه! بعد ست ساعات خرج عمر من غرفة العمليات، وكطفل صغير أسأل كثيراً لكنني لا أفهم ما يقولون. قال أبي بصوت مكسور كما لو أنه شجرة كبيرة قُصت من جذورها: "عمر عايش.. بس ما بشوف وسمعه خفيف كتير".

إذن.. أصبح عُمر الآن أخرس، وأعمى، ويسمع بشكل ضعيف جداً. هل تحوّل عمر؟ كيف أتواصل معه بكل هذه العوائق، لو لمسته هل يعرفني؟ لو قرّبت فمي من أذنه وغنيت لها أغانينا هل يميزني؟ يا الله! تخيّل أنك في غرفة مظلمة للغاية، ولا تستطيع الكلام.. وبالكاد تسمع ما حولك.. هذه هي حياة عُمر الآن.. أشبه بغرفة أشباح!

"وقعوني على ورقة بأن الرصاصة طايشة، وإنني أتنازل عن حقي"

"إيه؟.. ووافقت؟"

"لا ما وافقت.. بس وقعت".

كان هذا أول حوار يدور بين أمي وأبي منذ أيام. مشت أمي باتجاهي ثم ضمتني وبكت. لا أدري إن كانت تبكيني أم تبكي عمر.. لكنها بكت كما لو أنها ابتلعت بحراً من دموع.

مرّ أسبوع على قصة عمر. كان أبي وأمي يتناوبان على المستشفى. لم يظهر أحد من عائلة العميد جميل، ولم يعتذر أحد. ولمَ الاعتذار؟ اللوم على عمر لأنه وقف في وجه رصاصات الاحتفال إياها! في اليوم الثامن توقف قلب عمر، وتحققت نبوءة التراب الذي صُبّ على دمه. مات عمر وتركني طفلاً غارقاً في أحلامي وأوهامي. هل مات عُمر رعباً أم وجعاً أم غضباً منّي لأني لم أسحبه من ساحة العُرس رغماً عنه؟ أم أنه مات من كل ذلك؟

اسمي عادل.. وأبلغ الآن 29 عاماً.. مرت 20 عاماً على رحيل عمر، بل مرت أكثر من 7000 يوم على رحيله. ولست منصفاً حين أقول إنها مرّت؛ لأنها لم تمرّ قبل أن تسحب معها في كل يوم بعضاً منّي. منذ 20 عاماً وأنا شمعة يذوب شيء منها كل يوم حزناً على وفاته.. بل قتله برصاص المحتفلين بعرس ابن العميد جميل، الضابط في المخابرات، دون أي اكتراث أو محاكمة للفاعل من الدولة، هكذا تكون الصياغة الحقيقية لما حدث.

في كل حفل نهاية العام المدرسي كنت أهرب إلى الحمام، وأبكي بلا انتهاء، لا يمكن لهذا الحفل المدرسي أن يكون حفلاً دون عمر. كان ليفرح أكثر من يوم العرس وهو يجمع فوارغ الرصاص. عشت كل أعوامي المدرسية دونه، ولمّا كان يتنمّر عليّ كنت أتمنى لو أنه بجانبي، حتماً كان ليمنعهم ويركلهم واحداً تلو الآخر.. كانت شجاعته لا توصف.. وكان ضعفي في غيابه.

كلما ألبس ملابس العيد كنت أتخيله بجانبي.. يلبس مثل لبسي تماماً. كان يحبّ الجينز الأزرق الفاتح، وكان يتسلل إلى غرفة الضيوف ليسرق بعضاً من الشوكولاتة. أحرس أنا باب الغرفة بينما يأخذ حبة له وحبة لي ثم ينسحب بهدوء.

ما زلت يا عمر آخذ حبة لي من شوكولاتة العيد.. وآخذ واحدة أخرى لك.. أخبئها لك منذ 20 عاماً.. كلها عندي في صندوق خاص مكتوب عليه: شوكولاتة العيد – عمر.

ولما آكل البندورة أقلده، كان يأكلها "فغماً" وينسال ماء البندورة على ثيابه.. كنت أضحك عليه وعلى منظره.

كل يوم أظن أنني سوف أتأقلم مع غيابه.. لكنني لم أعلم أنني كل يوم أغرق أكثر في غيابه، غيابه الطويل.

أما أصعب الأيام وأقساها فهو يوم العرس.. أحببت فتاة من الحي وخطبتها، ومع اقتراب يوم عرسي بدأت حفلة من الاكتئاب تجتاحني -فوق الاكتئاب الممتد أعواماً- أريد عمر.. لا أريد لهذا الحفل أن يكتمل.. لا أريد لهذا العرس أن يحصل.. كيف أتزوج دونه؟

ذهبت عند قبره فجر يوم الزفاف، جلست بجانبه أسرد له قصتي.. قصتي التي أعدتها له آلاف المرات.. لكن هذه المرة كان حديثي قاسياً ومليئاً بالنحيب.. النحيب الصعب الذي خلّفه غيابه.. لا أريد لهذا العرس أن يكون، أريد أن تكون إلى شمالي وأن يكون أبي عن يميني، أن تأخذني من السيارة إلى الزفة وترقص معي حتى ينهكك التعب.

أريد أن تكون وصيفي طوال الحفل، أن تأخذني لأسلم على الناس، وأن تمنع الناس أن يقرصوني من الخلف -كما هي العادة في الأعراس- أريد أن أرى ابتسامتك التي لا أنساها، وفرحك الذي يملأ الدنيا، وضحكتك المدوية وعنفوانك المفرط، أريدك بكل تفاصيلك اليوم. انتهى العرس كما بدأ، ورحت إلى البيت مع عروستي التي ابتليت بي، دخلت إلى الحمام وشهقت.

بعد أيام من زواجي اجتاحت المظاهرات البلاد، كان خوفي أكبر من النزول فيها، لكنني كُنت أرى الآلاف من "عمر" في الشارع، بشجاعتهم وبسالتهم، وبهتافهم الذي صمّ آذان الدولة.

الدولة التي كانت توفر الذخيرة للأعراس وتمنعها عما وُجدت لأجله.

بدأت ألحظ وجه "العميد جميل" أكثر في الحارة، ازداد وجهه سواداً إلى سواده، وازداد مرافقوه، خاصة مع تحول البلاد من المظاهرات إلى المواجهات المسلحة.

في إحدى المرات كان في طريق عودته من مهمة.. خرج عليه ملثمون مسلحون قرب بيته.. ولما عرفوه قتلوه بالرصاص.. شاهدت صورة له بعد مقتله.. إحدى الرصاصات اخترقت رأسه بنفس المكان الذي اخترقت منه الرصاصة "الطائشة" رأس عمر.

اسمي عادل.. وعمري 32 عاماً، تسع قضيتها مع عمر، 20 عاماً حزنا ًعليه، و3 أعوام من الهرب من القذائف.

بعد حادثة مقتل العميد جميل، تحولت سماء الحي الذي أسكنه بقدرة قادر من سماء ممطرة بالماء إلى سماء ممطرة بالقذائف.. تعرّفنا في ثلاثة أعوام على كافة أنواع القهر والقذائف والذل والصواريخ والنزوح اليومي والبراميل المتفجرة.

أصبح صوت الانفجار موسيقانا اليومية التي ننام عليها ونصحو عليها، وتحولت الليالي إلى محاولة نوم تقطعه حتماً قذيفة.

لكنني كُنت أنتظر القذيفة، كنت أنتظر القذيفة التي تأخذني من هذه الأعوام الطويلة إلى الراحة الأبدية.

كنت أحاول أن أفهم سلوك من يرمي القذائف لأكون أنا الهدف القادم.

لكنه كان "ابن ستين كلب" يرمي بشكل عشوائي، ولم أفهم يوماً سلوكه.

اليوم استيقظت على غير العادة وحدي.. لم يكن صوت القذيفة هو من أيقظني، كان صوت مذيع الأخبار الممل وهو يقول: "وقُتل اليوم 13 شخصاً وجُرح آخرون في قصف نفذته قوات النظام على الحي الشمالي؛ لترتفع بذلك أعداد القتلى إلى 50 ألفاً في عموم البلاد". شيئان كادا يقتلاني: القذيفة والأعداد. اختصار كل تلك الحيوات في أرقام.. كل تلك اليوميات والدمعات والصرخات والحزن الممتد والكآبة اللانهائية وجوع الأطفال وقهر الرجال وذل النساء.. والمشي على الطين والنوم بلا سقف تحت برد المطر وشمس الصيف الحارقة.. وصندوق المساعدات الذي تلعن نفسك قبل أن تأخذه والخيمة التي طبع عليها شعار المنظمة التي تتاجر بك ولا تحميك.. والطفل المبتور والمرأة المغتصبة والرجل الميت تحت التعذيب والسجون المظلمة وغرف التحقيق والفساد وأسلحة الأمن الموجهة إلى الشعب والطائرات التي وجدت لتحميه فقصفته.. والمهجرون والعطشى والأمهات الثكالى وأمهات السجناء والشهداء والمفقودين.. وزوجة الغائب الذي خرج ولم يعد، فلا هي تعرف إن كان على قيد الحياة فتنتظره، أو إن كان تحت التراب فتعلق صورته وترثيه.. كل ذلك بلا استثناء يتحوّل إلى رقم!

اليوم أخيراً.. أصابتني القذيفة، وملأتني الشظايا.. لم أسمع صوتها كالعادة، لكنني نمت بهدوء.. أصبحت كل حياتي رقماً.. أصبحت أنا خمسين ألفاً وواحداً.

 

مدونات الجزيرة

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
عامر السيد عمر
منتج في AJ+
تحميل المزيد