انبعثت وردةٌ حمراء من دم التّنين.. القصة الغريبة ليوم الوردة والكتاب في إسبانيا

عربي بوست
تم النشر: 2018/04/23 الساعة 11:50 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/04/24 الساعة 15:02 بتوقيت غرينتش
Princess with a book, knight with a sword and dragon a rose. Diada de Sant Jordi (the Saint George’s Day). Dia de la rosa (The Day of the Rose). Dia del llibre (The Day of the Book). Traditional festival in Catalonia, Spain. Vector illustration.

أقرّت منظمة اليونسكو رسميّاً سنة 1995 يوم 23 أبريل/ نيسان من كلّ سنة، يوماً عالمياً للكتاب وحقوق المؤلّف.
ودأبت أغلب بلدان العالم على الاحتفال به مع مصادفة اقتران هذا التاريخ بالاحتفال بيوم القدّيس جرجس أو "سيدنا الخضر"، أو سان جورج، حسب ما يُطلق على هذا البطل المستقرّ في المخيّلة الشعبية من أسماء في العديد من المجتمعات المسيحيّة على اختلاف لغاتها.
ففي شمال شرق إسبانيا بمقاطعة كتالونيا وفالنسيا وجزر الباليار مثلاً، يُعرف هذا اليوم بيوم سان غوردي، وفيه يتجدّد التّذكير بأسطورة هذه الشخصية الميثولوجية عبر تقليدَيْن تميّزت بهما المنطقة ألا وهما شراء الكتب والورد معاً.
في الحقيقة، يتأتّى الاستثناء الكتالاني في الاحتفال بهذه المناسبة من تفاصيل الأسطورة المتداولة عن شخصيّة سان غوردي في نسختها الإسبانية؛ إذ تعود أطوارها إلى معركة في سنة 1456 بين تنّين جاثم على قرية "مون بلان" فتك بأهلها، وفارس شجاع قرّر أن يواجه هذا التنّين عندما وصل الدّور إلى ابنة الملك لتكون قربانه.

بعد معركة شرسة، تمكّن البطل سان غوردي من هزيمة التنّين بغرس سَهمه في صدره حتّى أرداه قتيلاً وسط فرحة عارمة من الملك وأهل القرية.
تقول الأسطورة الكتالانيّة: إن دم التّنين حين تدفّق غزيراً، انبعثت منه وردة حمراء قانية، فقدّمها البطل لابنة الملك عربون محبّة.

من هنا وُلِد العُرف الاجتماعي القائم على أن يهدي الرّجل وردة لحبيبته، ثم تطوّرت الأفكار وشمل هذا الإهداء المرأة بصفة عامّة، كأن يعود الرجل مثلاً بوردة لكل من زوجته، أمّه، أخته، جارته، ابنته.
وتختلف هذه اللّمسة الرومانسية عن باقي نُسخ الأسطورة المنطلقة من لبنان وفلسطين منذ القرن الثالث، مروراً بتركيا وإيطاليا والنمسا وفرنسا وحتى روسيا، وصولاً إلى بريطانيا وحتى أميركا بعد غزو الأوروبيين لها في أواخر القرن الخامس عشر. فجميعها تتّفق على اعتبار شخصية هذا البطل رمزاً للمنتصر، خالص النوايا، على بساطة سلاحه (رُمحٌ يحمل في آخره رمز الصّليب)، في مواجهة خِصم قَوِي.
ورغم الاعتراف بأهمية هذه الأسطورة في التّراث الشّعبي الأوروبي عموما، فإنّه وَجَبَت الإشارة إلى أنّه لم تكن الأسطورة لتأخذ كل هذا الحجم الاحتفالي لولا التوظيف الثقافي الاجتماعي الجيّد لها.

فبالنسبة للحضور اللافت لمحطّات بيع الورود بالشارع الكتالاني فيُعتبر عُرفاً كما ذكرنا.

أمّا بيع الكتب في الشّوارع الرّئيسية فلا يرجع أساساً إلى اليوم العالمي للكتاب وإنّما إلى مُعطى آخر؛ ففي مستهلّ القرن العشرين شهد قطاع النّشر والكتب أزمة خانقة، فانتبهت نقابة الكتبيّين والغرفة الوطنية للكتاب، إلى أنّ يوم سان غوردي والموافق لـ 23 أبريل/نيسان كما سلف ذكره يتوافق مع تاريخ وفاة قامة من قامات الأدب الإسباني، ميغال دي ثيرفانتس (مؤلّف دون كيشوت) وتاريخ ميلاد قامة الأدب الإنكليزي شكسبير.

فكان الاجتهاد على إقرار ذلك التّاريخ كيوم احتفالي بالكتاب، بنيّة التّوزيع وتنشيط حركة البيع (إلى أن تمّ إعلانه من طرف اليونسكو سنة 1995 على أنه يوم عالمي للكتاب وحقوق المؤلّف).
وبالتّالي، تمّ جمع المناسبتين، بحيث يهدي الرّجل المرأة وردة وتهديه هي كتاباً. وكانت الفكرة إيجابية جداً، فقد أثّرت بشكل كبير في المخيّلة الاجتماعية؛ إذ أقحمت الشّغف بالكتب في اهتمامات المواطنين، خصوصاً أنّه مع كل نجاح وإشعاع للظّاهرة، تتعزّز ثقة الكتالانيّين بأنّهم مواطنون متميّزون عن باقي الإسبان.
ولكم أن تتصوّروا هذا الاستثمار الثقافي على مدى أكثر من قرن في غرس قيمة الكتاب كقيمة ثابتة في تطوّر المجتمع بداية من الثقافة العائلية التي نجحت في فرض صورة الجدّ الذي يقرأ وتأثّر الحفيد بهذا السّلوك. شيئاً فشيئاً، أصبح السلوك متواتراً إلى أن وصل إلى درجة التنافس وصار الكتاب يحتلّ ركناً جغرافياً ثابتاً في البيوت وفضاء لا بأس به في عقل المواطن، طفلاً كان أو كهلاً.

وبطبيعة الحال، انطلقت الظاهرة على بساطتها في إطار محلّي إلى أن عزّزها قرار اليونسكو بتدويلها، فكان لها أن تُحدث وقْعاً مُنعشاً على مزاج هذا الإقليم.
والمناسبة لا تقتصر على بيع الورد والكتب فقط، في سلوك متكررّ، بل إنّ تفاصيل كل "سان غوردي" يميّزه عن سابقه، وبعيداً عن التّنافس الشّديد على تزيين واجهات محلّات المدينة وساحاتها، فإنّ الاجتهاد بلغ درجة الحماس إلى حدود تنظيم حملات التبرّع بالدم (في استثمار لتفاصيل الأسطورة) وإسناد رخص بيع الورد لبعض الجمعيات الخيرية والاستفادة من عوائد المبيعات، وتنسيق حملات تبادل الكتب بين المواطنين، وتطوير تحفيز الأقلام النّاشئة على النشر والتفاعل، وتوفير فرصة الالتقاء بالمؤلّفين مع قرّائهم، وتنظيم مسابقات في النشر وإسناد جوائز لمؤلفي الكتب الأكثر مبيعاً، والدُّور الأكثر نشراً، إضافة إلى التغطية الإعلامية المتطوّرة لهذا المهرجان وتحليتها بشيء من الموسيقى والعزف من ساحة كتالونيا أساساً (أهمّ نقطة استعراض)، حيث ينتصب استوديو خارجي عادة لأهم المحطات التلفزيونية.
وعلى مدار اليوم تتجوّل الكاميرات على طول شوارع برشلونة العاصمة لرصد الحشد وتتبّع الصّفوف المتراصّة للحصول على توقيع من كاتب هنا أو شاعر هناك.

إضافة إلى الاستضافات المباشرة للمساهمين في التظاهرة على اختلاف أعمارهم ومستوى إسهاماتهم.

أمّا تتويج الفائزين آخر اليوم، فذلك حدث حاسم يحظى بالتغطية الأكبر.
مناسبة كتالانيّة متميّزة، تحرص برشلونة (كعاصمة لهذا الإقليم) على إتقانها أكثر و تجديد فقراتها كلّما تألّقت العاصمة الإسبانية مدريد، على الجانب الآخر، في الاحتفال باليوم العالمي بالكتاب في إطار تنافس مُدن العالم على هذا الحدث.
نقطة ضوء في ثقافة المجتمعات يمكن أن تبعث على التّفاؤل، وتبيح لمظاهر الاستهلاك أن تتغلغل أكثر فأكثر إذا كانت تخدم الجمال والفكر، نقلتها لكم باختصار؛ لأن الظاهرة مُغرية بالشرح عساها أن تؤثّر في عالمنا العربي.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
عبير الفقيه
كاتبة ومترجمة تونسية تقيم في إسبانيا
تحميل المزيد