محاكمة التعليم الأزهري.. ماذا أرادوا؟ وماذا نريد؟

عدد القراءات
2,335
عربي بوست
تم النشر: 2018/04/23 الساعة 13:15 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/04/24 الساعة 06:37 بتوقيت غرينتش

ماذا أرادوا؟ وماذا نريد؟! لم يتوقف الحديث عن تعليم الأزهر وكيف أنه كان سبباً رئيساً في إشاعة التطرف، وما بين متهم وما بين مدافع يبدو أن محاكمة التعليم الأزهري باعتباره المتهم الأول في الإرهاب المزعوم كادت تنتهي، والعقوبة بإعدامه أو بمصادرته أو بما في حُكمهما باتت وشيكة…

وفي جميع الأحوال، يجب أن نعترف بأن محاكمة التعليم الأزهري قد جاءت متأخرة جداً، نعم قد تبدو هذه حقيقة صادمة، لكنها الحقيقة التي كان ينبغي الجهر بها منذ زمن، لا لإعدامه أو مصادرته كما هي الدعوة التالفة الآن؛ بل لتصحيح مساره وإعادة توجيه دفته إلى الوجهة السليمة التي تعود بها الأُمة إلى زمنِ عِزَّتها، فتردّ الأمور إلى قرارها ونِصابها الصحيح.

فالأُمة ليست في حاجة لطالب أزهري لم يُحَصِّل من العلوم الشرعية ما يُمكن أن يُصبح به عالماً شرعياً؛ بسبب مزاحمة غيرها من العلوم الطبيعية أو الاجتماعية لها، أو آخر لم يُحَصِّل من العلوم الطبيعية أو الاجتماعية إلا قدراً أضعف مما تلقاه مثيله في الجامعات التقليدية؛ بسبب العبء المُلقى على كاهله بدراسة هذه العلوم إلى جانب أضعافها من العلوم الشرعية، فإذا به يخرج للحياة بأقل فرصٍ في التوظيف واكتساب الخبرة العملية وأقل حظٍ في استكمال الدراسة العلمية، في ظل واقع يُفرّق بعنصرية فجة بين خريجيه وخريجي باقي الجامعات، فلا هو­ بكل أسفٍ­ قادر على الإنتاج في ميادين العلم ولا هو قادر على الإنتاج بميادين العمل، رغم كل ما يُميزه من القدرات والمواهب والأخلاق.

لقد كان المأمول ­بحق ­من التعليم الذي يتلقاه طالب العلم الأزهري، أن يكون التغير في طبيعة المقررات ذاتها ومحتواها العلمي، فإذا لم تكن مهمة جامعة الأزهر أن تُخرِّج عالم الاقتصاد الإسلامي وعالم السياسة الإسلامي وعالم الاجتماع الإسلامي وعالم النفس الإسلامي وعالم القانون الإسلامي، ولا أعني أسلمة العلوم؛ بل أعني ابتكارها ابتداءً أو تخليق نماذجها الإرشادية وبِنْية ثورتها العلمية.

إن الحاجة لاضطلاع الأزهر بتقديم علوم اجتماعية إسلامية وعلوم طبيعية بلغة وعربية ومنهجية إسلامية لا تقل عن الحاجة لاضطلاعه بمهمته الرئيسية في تقديم علوم شرعية صحيحة مُنضبطة، لا أن يُقدم المعارف الطبيعية والاجتماعية بصبغتها الغربية العلمانية ذاتها إلى جانب بعض المقررات الشرعية التي لا صلة لها بدراسة هذه المعارف، فيظن أساتذته والقائمون عليه أن ذمتهم قد بَرِئت من المسؤولية.

إن كل علم من العلوم الإنسانية في جامعة الأزهر يجب أن يُدْرَس، لا في إطار العلوم الغربية ولا المؤلفات الغربية ولا المفكرين والأساتذة الغربيين ونظرياتهم وأفكارهم؛ بل في إطار تاريخه الإسلامي وفي إطار مفاهيمه ومصطلحاته ولغته العربية وفي إطار أُسسه وفلسفته ومنهجيته الإسلامية، لا من حيث ما كان وبقدر ما هو متاح فحسب؛ بل في إطار ما كان ينبغي أن يكون وما يلزم أن يصير إليه.

ولعله لا يُدهش أساتذة الأزهر وخريجيه وطلبته كما قد يُدهش غيرهم، القول بأن كثيراً من مقررات التعليم الجامعي في الأزهر تُدرس من المنطقة الوضعية الغربية نفسها (القديمة منتهية الصلاحية) التي تنطلق منها المقررات في باقي الجامعات؛ بل تخلو كتبها في أحيانٍ كثيرة من الآيات والأحاديث والأصول الدينية والفقهية، ولا أقصد بذلك العلوم الطبيعية ­وهي ليست في غنى عن ذلك ضرورةً؛ لأن العلم في النظرة الإسلامية مقيَّد في كل حال بالأخلاق والقيم الدينية؛ بل أقصد العلوم الاجتماعية.

وأذكر على سبيل المثال أنني في أثناء تحضيري رسالة الماجستير في الاقتصاد الإسلامي استعنت ببعض الكتب المقررة في كلية التجارة بجامعة الأزهر، فهالني أني أكاد لم أقف في بعضها على آيةٍ واحدة أو حديثٍ واحد، فضلاً عن السمة العامة الملاحَظة من ضعف محتواها الشرعي في هذا العلم، الذي لم أكن أتصور أن ينفك عن القيم والأحكام الدينية، وبالمثل عاينت أمراً أشبه بهذا في قسم القانون بكلية الشريعة والقانون.

فإذا لم يقم الأزهر بهذه المهمة الخطيرة؛ مهمة تغذية الطالب الجامعي بالمحتوى الشرعي في هذه العلوم التي لا تستغني عنها أُمة من الأمم والتي تميز كل أمة عن غيرها من الأمم، فما المؤسسة التي يُنتظر منها أن تُقدم مثل هذا المحتوى؟!

إن الغرضَ الذي تمت توسعة التعليم الأزهري من أجله ليضم إلى جانب العلوم الشرعية مقررات العلوم الطبيعية والاجتماعية، لم يكن لتدخل جامعة الأزهر كمنافس للجامعات التقليدية، فقد كنا في غنىً عن هذا، وكان الأزهر عنه أغنى.. لكن المقصد الرئيس كان هو تأهيل الطالب المسلم لتكوين عقلية علمية نقية من رواسب المنظومة القيمية الغربية الجاهلة، التي قدست المادية وفَصَلت فصلاَ تاماَ بين الأخلاق والعلم.

كان المقصد الرئيس تكوين عقلية مُبدعة خلّاقة، قادرة على توظيف العلوم الشرعية في توطين المنهجية الإسلامية في المجتمع، هذه المنهجية التي ميزت الحضارة الإسلامية في مضامينها العلمية فأنتجت علماً كعلم الهيئة أو علم الجبر، اللذين لا يستطيع كائنٌ من كان أن يُجادل في أنهما صنيعة عربية خالصة، إن أحد أكبر أساتذة فلاسفة الرياضيات وهو الدكتور رشدي راشد، يُقرر بعد دراسة مستفيضة أن الخوارزمي وإن لم يُصرح بمصادره في وضع علم الجبر فإن تتبع حياته وأعماله وأفكاره يؤكد أن مصادره تركزت في مصدرين أساسيين هما؛ منهجيات تقعيد اللغة العربية، وأصول الفقه كعلم منهجي بامتياز.

حقاً، لقد بذل بعض المفكرين المسلمين منذ منتصف القرن الماضي جهداً كبيراً في استعادة هذا الدور، لكن جميع جهودهم دارت حول أسلمة العلوم والمعارف، ومحاولة فهم وتفسير أفكار ابن خلدون أو ابن تيمية أو غيرهما في ضوء مخطط العلوم المعاصرة الغربي، وكان يلزمنا تجاوز هذا المستوى من التفكير والعمل، إذا ما أردنا أن ترجع الأُمة إلى سابق عهدها، وأن يكون لنا السبق في إنتاج العلوم وابتكار النماذج المعرفية الجديدة، كما فعل أجدادنا من قبلُ وكما يفعل الغرب كل يوم، فقائمة العلوم الطبيعية والاجتماعية ما زالت في ازدياد والعرب لا يقدمون فيها أدنى مساهمة؛ بل كل جهودهم مصوَّبة نحو ترجمتها أو تبريرها ولا يُقدمون حتى في هذين الشأنين شيئاً يُذكر.

لقد كان المُنتظر بعد طول هذه المدة على تأسيس جامعة الأزهر أن يتأسس من خلالها للأمة العربية علومٌ حديثة تملأ الدنيا بثمراتها العلمية، فأين منظومات مفاهيمنا ومصطلحاتنا الخاصة ودوائر معارفنا ­ الطبية والهندسية والبيولوجية والزراعية والنفسية إلى غير ذلك من العلوم والمعارف­ التي أنتجناها طوال هذه المدة؟! ولا أعني الاكتشافات والاختراعات،­ فقد كانت غاية بعيدة المنال بكل أسف؛­ بل أتكلم عن اللغة العلمية والخصيصة الثقافية التي تُؤكد ذاتيتنا وهويتنا التي بات تَلمسها في المجتمع العلمي الآن من المستحيلات.

إن المركزية العلمية الغربية لم تعد كما كانت من قبل؛ بل هي في تفتت وإلى التفتت سائرة، فاليابنيون والصينيون والأتراك والهنود وغيرهم من الأمم صنعوا لأنفسهم نظماً خاصة ونُسقاً مستقلة ومناهج متميزة في فلسفات العلوم ومفاهيمها ومصطلحاتها، إن الدول المتقدمة التي تحترم شعوبها ­قبل أن تحترم تاريخها ­ لَتأبى أن تَدْرُس أو تُدِّرِس العلوم بلغات غير لغاتها وبمفاهيم غير مفاهيمها، وليس العجب في أن نتبنى سياسة التعليم بغير لغتنا ومفاهيمنا بصفة مؤقتة حتى نتمكن من بناء نظمنا ووضع مناهجنا الخاصة؛ بل العجب في أننا استمرأنا هذه الذلة المنهجية عقوداً، واجتهدنا في تبريرها واتهام مَن رفضَها ونقَدَها بالجهل والتعصب، فالعجب من كِبرنا في الباطل وتلبسّنا بدعاوى ادعاء العلم الزائفة وتقصيرنا نحو تاريخنا ولغتنا ونحو كرامتنا العلمية.

لقد استولى المسلمون في نهضتهم الأولى على قيادة العالم في العلم في أقل من عُمر جامعة الأزهر، فضلاً عما سبقها من الجامعات العربية، ولسنا أقل في الاستعدادات الجسمية والعقلية لتقصر أيدينا عن مزاحمة باقي الأمم في آثارهم العلمية، أو لنكون متبوعين أو مستقلين علمياً لا تابعين.

ألا فلتكن محاكمة التعليم الأزهري التي ارتفعت لها الأعناق اليوم دافعاً لأساتذته وطلابه لتعظيم الهمم وسَن العزائم وتصحيح المسار، لا تنكيس الرؤوس والانزواء في قفص الاتهام وخانة الدفاع، لتشويه وتضييع ما بقي منه تحت وطأة الإرهاب الفكري الذي يُمارَس قِبلنا، فلتكن دافعاً لاستغلال حماستنا وتوظيفها فيما يُقدِّم، لا في معارك مُصطنعة نُجَرُّ إليها فتستهلك طاقاتنا وأوقاتنا، لتكن دافعاً لنستيقظ من سباتنا ونعرف واجبنا نحو العلم ونحو الأُمة.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
محمد وفيق
كاتب مصري
تحميل المزيد