كتبت من قبل عن أثر الفراشة، وكيف لأعمال صغيرة أن تقود إلى أحداث ضخمة لم نكن نتوقعها. فرفرة جناح فراشة في أقصى المشرق يمكن أن تولد إعصاراً في أقصى المغرب. لكن الأحداث كذلك علمتنا أن أعمالاً صغيرة لا نلقي لها بالاً يمكن أن تهدم ما بنيناه، وفي سرعة تفوق خيالنا؛ لنكتشف أننا كنا في انتظار أثر الفراشة، ولكننا غفلنا عن عنصر آخر.. أثر البهائم!
فرفسة صغيرة من بهيم لا نلقي لها بالاً يمكن أن تتبعها سلسلة من الكوارث تهوي بنا بعيداً في أعماق الظلمات. حين تقودنا الغريزة لا العقل، وتعمينا الكراهية عن رؤية الطريق، ونحارب أي صوت يدعو للعقلانية والتفكير.
حين تحل الخرافة والوهم محل الاستراتيجية، ويحل الشعار محل الخطة، ونسحق العقول ونروعها لنفسح الطريق للبهيمية، فإذا بنا ندق طبول الحرب بكل حماس؛ لنعلنها حرباً مفتوحة ضد أنفسنا؛ لنكتشف ما لم يحكه لنا أحد.. أن أثر البهائم لا يزول!
عندما أسمع بفكرة جديدة مهما صغرت لا أحتقرها؛ لأني أعلم أنها قد تصل إلى أبعد مما نتخيل، فقط أحاول تخيل تداعياتها إن كتبت لها الحياة، هل ستنتج لنا فراشات أم بهائم؟! ومدى تأثيرها على القيم والمبادئ الأساسية، من كرامة إنسانية وعدالة وحرية، ودورها في بناء مجتمع قوي له ضوابط إنسانية في إدارة الاختلاف، أو بناء مجتمع حيواني متفتت يتربص فيه كل بالآخر.
وليس صعباً معرفة إن كان العمل الصغير سيولد فراشات أم بهائم، فأثر الفراشة يوسع دائرة الممكن، ويجلب الأمل وينفتح على المستقبل، بينما أثر البهائم يقلل الخيارات، ويعزز اليأس، ويرمي بنا بعيداً في غياهب الماضي.
يمكن أن نتنبأ بالمستقبل الذي ينتظرنا، وهل تصنعه رفرفة الفراشات أم رفسات البهائم، بالنظر في علاقة ما ندعو إليه بشكل المستقبل الذي نريده، فإن كنا مثلاً ندعو إلى الاقتتال الداخلي في نفس الوقت الذي نبشّر فيه بمجتمع متماسك فهذا ينبئ بأثر البهائم.
وعندما تسمع دعوات ترفض حقوق الإنسان بحجة أننا في حالة حرب، فاعلم أنها حرب على الإنسان، ستجد أنه حيثما وجد أثر البهائم كانت الدعوات التي تخاطب الجانب الغريزي في الإنسان الذي يستحث فيه الكراهية والانتقام وسحق الإنسان.
إن أثر البهائم لا تنتجه فقط أفعالنا الصغيرة، فأقوالنا وأنماط تفكيرنا ومسلّماتنا الشائعة وقراءتنا للماضي وتصوراتنا عن المستقبل ستغذي الفراشات أو البهائم، والخيار لنا في النهاية.
ويغلب على ظنّي أن كل كيان فاعل في المجتمع لن يتمتع بجينات خالصة للفراشات أو البهائم، فلا يوجد كيان خالص النقاء، وإنما يغلب في بعض الكيانات أثر الفراشة وانفتاحها على المستقبل، ويغلب في كيانات أخرى أثر البهائم وضيقها من أي أفق جديد.
بل قد يغلب في موقف أثر الفراشة وفي موقف آخر أثر البهائم؛ لذلك لا عجب أن ترى الكيانات التي تشعل شرارة الثورة هي ذاتها التي تشعل شرارة الثورة المضادة.
إن عملية التغيير تبدو وكأنها تناوب مستمر بين الفراشات والبهائم، الفراشات تمهد الطريق للبهائم والعكس صحيح، فأثر الفراشة بعد أن يؤتي ثماره يضلل رواد التغيير، حين يتخيلون أنهم ليسوا بحاجة إلى مراجعة أفكارهم ومنطلقاتهم أو التعلم، ويستعلون على كل ناصح، ولماذا يراجعون أو يتعلمون طالما أنهم ناجحون؟! وهو ما يمهّد الطريق لأثر البهائم، حين تبدأ القرارات شيئاً فشيئاً تتخذ على أساس الغريزة لا العقل، فيبدأ عصر الظلمات؛ ليمهد الطريق لإعمال العقل والمراجعات مجدداً إيذاناً بقدوم الفراشات.
والمراجعات في حد ذاتها ليست ضماناً للانتقال من البهائم إلى الفراشات، إن كانت تتم تحت سلطة أثر البهائم، فتجدها تغرق في الوحل أكثر، وتصادر ما تبقى من عقل، كمن يقول نحن أخطأنا؛ لأننا أردنا إشراك المجتمع معنا، وقبلنا فكرة تداول السلطة، هو يرى الخطأ في أنه لم يكن بهيماً بما فيه الكفاية.
نحن ننتصر للبهائم ونحرج الفراشات حين نؤجل المراجعات أو النقاش في أي موضوع قد يسبب اختلافاً، مثل تصور شكل الحكم، وعلاقة السلطة بالمجتمع، وعلاقة مكونات المجتمع ببعضها. وليس مرحباً حتى بتخيل من أين ستطل علينا البهائم لنتقي شرها. لسان الحال: ليتوقف كل شيء. وبعد أن تأتي الفراشة ستفرج إن شاء الله.
رغم أن التجربة علّمتنا أن الفراشة قد تأتي وتُحدث أثرها، لكنها لن تُتم المشروع أو تستكمل التصور أو تحدد الصيغة المؤسسة لمجتمع قوي حر، هي فقط تفتح للمشروع البوابة ليعدو بحسب قوة استعداداته، وتطلق الشرارة التي يمكن أن تخرجنا من الظلمات إلى النور، أو يطفئها كسل عقولنا وفساد قلوبنا، حينها لن تغني ألف فراشة، إن كانت البهائم على الأبواب.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.