“آلات حادة”.. أحتمي بالصمت بعد أن جرحتني الكلمات

عربي بوست
تم النشر: 2018/04/22 الساعة 07:14 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/04/22 الساعة 07:14 بتوقيت غرينتش

للسينما بهاؤها الخاص الذي يوقظ الحس الجمالي ويحث على التقاط إشاراته، فما بالها لو تماثل السرد البصري مع الشعر والفن التشكيلي ونثر الكلام على تجلِّيه الحر، ليدخل في الحكاية ويصنع أثره في الذاكرة والوجدان كما فعلت المخرجة الإماراتية نجوم الغانم في فيلمها الوثائقي الطويل "آلات حادة" (84 دقيقة) الفائز بجائزة أحسن فيلم في مهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة، بعد عرضه الأول في الدورة العشرين التي انتهت فعالياتها الأسبوع الماضي، فيلم بدا ملاذاً منيراً على الصعيد البصري؛ يتوافق مع موضوعه الذي يطمح إلى إبراز مساحات إنسانية تتجاور مع الفن وتنعكس ظلالها الضوئية على جمهور ينشد أفقاً أوسع، لطالما تتطلع إليه عبر الشاشة أملاً في التحرر من عتمة الصالة.

"آلات حادة" يحسم السؤال المتكرر في مناسبات عدة: هل السينما تختصر سائر الفنون؟ حسناً، هو فيلم يغذيه الشعر؛ خصوصاً أن مخرجته وكاتبة نصه هي أيضاً شاعرة تثري الصورة بالكلمات، عبر بناء متماسك يزاوج بين السينما والفن التشكيلي، متمحوراً حول الفنان التشكيلي الإماراتي حسن شريف (مواليد 1951-18 سبتمبر/أيلول 2016)، مؤسس التيار المفاهيمي في الخليج والإمارات وصاحب الروح الجديدة المؤثرة في أجواء الفن التشكيلي بين الأجيال الجديدة في الإمارات، حيث يعتبر حسن شريف كأب روحي في مجال الفنون البصرية، والأكثر اختلافاً وتأثيراً وإثارة للجدل، يسرد حكاياته بنفسه ويتطرق إلى أسباب اختياره هذا الأسلوب الإشكالي في زمن لم يكن جاهزاً للثورات الفنية. الكاميرا وهو وسحر أعماله في مواجهات فريدة وحالات كشف استثنائية تكشفها سيناريو كتبته المخرجة نجوم الغانم وأنتجه خالد البدور، من تصوير إلياس طراد، ومونتاج آن دي مو، وموسيقى محمد حداد.

أمضى حسن شريف حياته فناناً يتبع بصيرته وحدسه، عابراً زمنه إلى فضاء مختلف تشكله أعماله التي زلزلت عالمه ومحيطه؛ فلم يكن تعرّف على مثيل لها بعد، فكانت مواد عمله التشكيلي أداة طيّعة بين يديه للتوغّل في الشأن الذاتيّ الخارج من بيئته ومعبراً عنها، مستعيناً بذاكرة موغلة في مآسي البدايات؛ كي يرسم أفكاره ورؤاه التي تكتمل بها تصوراته عن الوجود وإدراكه أن نتاجه التشكيلي هذا أقوى تعبيراً وأجمل سلوكاً، لهذا انصرف إلى عمله على التخوم المتداخلة بين الخيال والتمرد والمثابرة، صانعاً مناخه الخاص من حضوره الإنساني الذي أسهم في إعمال مخيّلته الفنية المنفتحة على الأسئلة كلّها، ظل يقارع واقعه بإبداعاته المتتالية، إلى أن تمكن منه المرض ورحل حاملاً روحه المتسعة للخيال والجمال، وهذا ما لمسته نجوم الغانم في فيلمها الذي أضاف نقطة جديدة إلى مسيرتها السينمائية الممتدة إلى التسعينيات، حيث قدمت  فيلمي "آيس كريم" و"الحديقة" عام 1997، و"ما بين ضفتين" (1999)، و"المريد" (2008)، و"أحمر أزرق أصفر" (2013)، و"سماء قريبة" ( 2014)، و"عسل ومطر وغبار" (2016). وهي هنا في "آلات حادة" تتوّج الصورة بالكلمة وترسم بورتريهاً فريداً لشخصية أكثر تفرداً، متماهية مع مفاهيمه ونسقه الفلسفي والنفسي والفني، بعين شغوفة ومهارة لا تأتي إلا من حس إبداعي يدرك تجربة فنان هيّأ حياته كلها لفنه، وعلى هذا الأساس قدمت نجوم الغانم فيلمها كجملة اسمية فيها رائحة الإنسانية بعد فعل شاق، وهو ما يتضح من عنوانه اللافت الذي يحمل دلالة واضحة على سيرة فنان أثار الكثير من الجدل، يبدو ظاهره قاسياً كالحجر، حتى نكتشف داخله ليناً كالألوان حين تسري على اللوحة.

مشاهد مفعمة بالتفاصيل رصدتها تتحرك ببطء يصنع جمالاً شعرياً للصورة،  لقطات كثيرة صامتة وأخرى متضمنة حواراً كاشفاً لشخصية حسن شريف الذي يظهر وحده في الفيلم بناءً على رغبته، فلم يرِدْ أن يتحدث عنه أحد غيره، وهو أمر صعب على أي مخرج؛ ومع ذلك بدا الفيلم ثرياً ومشرعاً على عالم مختلف ولكنه ممتع مع هذا الرجل الذي لا يشتتنا كلامه، كذلك مع مخرجة قدمت مشاهد معنونة بسطور شعرية، كل عنوان يفسح عن مَعلم من معالم حسن شريف الذي يتحدث بكلمات منسابة في الرافد الشعري ذاته، فيما تأتي الصور لتؤكد النسق ذاته، دقة شديدة يسير الفيلم على وتيرتها، فيترك أثره كما بطله، الذي يرى أن ترك الأثر مهم جداً.

يعنون المشهد الأول بـ"أحدهم أخذ مني الشمعة وأعطاني العتمة/ بقيتُ في حيرة الحرف والنقطة"، يتذكر حسن شريف طفولته التي يصفها بأنها كانت "بؤساً في بؤس"؛ مشيراً إلى أنه لا يحب أن يتذكر ماضيه ولا يعترف بفكرة الحنين إلى القديم، فيقول: "ما عندي عاطفة تجاه أي شيء، أحب أن أكون حجراً، أنا إنسان متحجر وأحب أن أكون متحجراً"، تبدو جملته صادمة يفسرها موقفه من والدته التي ضايقها اتجاه ابنها إلى الفن، فكانت تفضل أن يعمل في مهنة تجلب المال؛ لذلك لا تنتابه نوستالجيا إلى ما مضى؛ ويسعده العمل بآلاته الحادة وربما كما يقول فاصلاً شعرياً آخر: "أحتمي بالصمت بعد أن جرحتني الكلمات" و"أزيل عن كتفيّ أصواتهم ووجوههم/أعبرُ للمسافات لربما أصبحتُ حراً منهم/أعبرُ لأضيّع آثارهم".

اعترافات جامحة ترِدُ على لسانه حتى إنه لا يرى نفسه رومانسياً ويرفض العائلة قائلاً: "أنا عائلة نفسي"؛ ثم نجده حنوناً مع قططه وحريصاً على إطعامها ومداعبتها، ويروي الشجرة المعدنية التي قام بتشكيلها في حديقته، كذلك يشرب مع دُمية ملكة بريطانيا شاي العصر، تتابعه كاميرا نجوم الغانم محاولةً أن تلتقط هذه اللقطة الإنسانية؛ فتتوغل معه في سرد بصري يقدم مراحل متعددة في مشواره الصعب، حتى وصل إلى هذه اللحظة في ورشته التي يواصل فيها عمله وبوحه الصادم الذي يعترف فيه بضرورة أنانية الفنان ويقول: "ربما أنا أناني"، دون تقيد بضرورة تحسين صورته كأعمال أخرى كثيرة تداعت أمام تلطيف ظاهر الفنان وشكله إلى حد تجريده من إنسانيته ليكون في مصاف الملائكة، بينما هنا يسعى الفيلم وراء شخصيته المحورية في عقود ماضية حتى لحظته الحاضرة، حسب فاصل شعري آخر "أزمنة جاءت/ وأخرى ذهبت/ وخطواتي ظلَّت تركض بينها".

كل مشهد كان يؤسس لجزء من شخصية هذا الفنان المدهش، الذي يرى أن هدر الوقت مهم في الأعمال الفنية، وأنه أسيرُ الفراغ يتعلم منه أشياء وأفكاراً وطرقاً جديدة في البحث؛ بل إن البحث عنده أهم من نتائجه، فالرحلة -كما يقول- أهم من الوصول، كما يشير إلى روح المداعبة المعدومة عنده، وأنه يحب أن يداعب الأدوات الجامدة التي يصنع من خلالها عمله وقصصه الفنية، عن طريق القطع والربط؛ ويرى أن هذا القطع والربط هو فعل امرأة، كما كانت تفعل شهرزاد في حكايات ألف ليلة وليلة، حيث نجاها فعل تقطيع الحواديت من الموت بعد أن أغوت شهريار برواية متسلسلة لا حد لها، ثم يقول: "بداخلي أنثى كبيرة"، معبراً عن تواصله مع الحياة برغبة تؤجج أحلامه ومشاريعه، ومنها انطلق إيقاع الفيلم عند تشابك الصور والأعمال التي يصنعها وحركة كاميرا حرصت ألا تخلَّ بهذا التوازن في معادلة الضوء والظلال وحكمة تنساب من الشعر:

كما تركتُها منذ الأزل؛

ذاكرتي ممتلئة كصندوق معدات

لم يمسه أحد

ولن يمسه أحد إلا أنتم…

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

ناهد صلاح
ناقدة سينمائية
تحميل المزيد