حين كُنتُ صغيرة استوقفني مشهد العجوز "روز" في فيلم "تايتانك" وهي تُلقي القلادة الماسيّة الثمينة في قلب المحيط.
وقتها غلبتني الحكمة، وانزعجت من حماقة تصرفها، حتى إنني تساءلت:
ألم يكن من الأفضل أن تهديها لحفيدتها مثلاً، أو تبيعها في مزاد ما ببضعة ملايين، ثم تنفق تلك الأموال على المحتاجين؟!
بعد بضع سنوات شعرتُ -مصادفةً- بما شعرت به العجوز روز، بل أدركت أنني لو كنت مكانها لفعلت مثلها تماماً، كان هذا حين قرأت عن مزاد "شخصي" سوف تُباع فيه مقتنيات المبدعة الفلسطينية "مي زيادة"، في شقتها القديمة بوسط القاهرة.
نعم، تعتَبِر الدولة -باعتبار أن مواطنيها ملك لها- أن مقتنياتك كشخصية عامة لا تملُك ورثة -سواء حظيت بالتقدير المطلوب أثناء حياتك أم لا- تعود لها، فتأخذ كل ما ملكت وتدعه في دار الوثائق القومية، أما إذا كنت تملك ورثة فسيقومون هم بالواجب ويبيعون أغراضك لـ"أصحاب النصيب" من هواة جمع المقتنيات وغيرهم!
الحقيقة أنني ذُهلت حين علمت محتوى مقتنيات الراحلة، هي لم تكُن من الشخصيات الثرية جداً حتى يتصارع أصحاب النفوذ على امتلاك جواهرها عنوة، ولا امتلكت قصوراً سيرغبون في اقتناء تحفها مثلاً، بل كانت مقتنياتها شخصيّة بحتة!
كان المزاد لبيع مذكرات ومراسلات بينها وبين عمالقة في الأدب والفن، من بينهم طه حسين وسيد درويش، وخطابات غرام تبادلتها مع شاعر المهجر جبران خليل جبران، وبالطبع تذاكر حفلات وكتب تحمل توقيعات وإهداءات من مبدعين آخرين.
حاولت النظر للأمر بطريقة إيجابية تحمل طابعاً إنسانياً بحتاً:
الإنسان فانٍ والأشياء باقية؛ لذا يجب أن نتناقل الأشياء ليحيا التاريخ من خلالها، يَجِب أن تُخلّد قصص الكفاح الرائعة وأناشيد الحُب البديعة، يجب أن تُخلّد الكلمات لأن المعنى باقٍ.
الامتنان، الوفاء، النبل، الكرم، الحنان، الرحمة، الفرح، الشوق، الوَلع، واللهفة، كل تلك المعاني الرائعة تحمل شعوراً واحداً وزِّعَ على قاطني الكوكب عبر الأزمان.
الحُب هو الحب والفراق هو الفراق.
نظرة الامتنان التي نظر بها أحدهم لآخر منذ ألف عام لا بد أنها نفس تلك النظرة التي نظرها جارنا العجوز لأخي حين حَمَل عنه حقيبته الثقيلة.
لذة الشوق في قلب عاشق مات منذ سنوات هي نفسها تلك التي شعر بها شاب ما أمس حين تذكّر حبيبته.
الزمن يدور.. المعنى واحد.. الإحساس مُتّصِل.. كقلب رجل واحد!
لا بُد أن يُخلّد هؤلاء إذاً بحكاياتهم وأحاديثهم ومغامراتهم.
يجب أن يُعاد سرد تلك الحكايات؛ لأنها بطريقة ما تُشبه حكاياتُنا، ولو اختلف الظاهر!
هكذا هوّنتُ الأمر قليلاً، ولكنني شعرت بالاستياء مرة أخرى حين تذكّرت أن هذه الأشياء الثمينة تُباع في "السوق السوداء"؛ ليمتلكها "هواة امتلاك"، ويتناقلوها إلى الأبد!
تماماً مثلما حدث مع مقتنيات رائعين كُثُر أتوا إلى هذه الدنيا في كل بقاع العالم!
فرض عقلي وقلبي تساؤلات عدة، لنفرض أن هذا الهاوي يقرأ الآن خطاباً سرياً بين العزيزة "مي" و"جبران" اللذين قيل إن حُبهما كان نقياً خالصاً ليوم وفاتهما، ماذا سيكون شعوره مع كل سطر من سطور الخطاب؟!
هل يرتجف قلبه مع كل كلمة عذبة جميلة كما ارتجف قلبها يوم قَرَأَتها؟!
هل شعر بلهفة قراءتها مثلها؟!
هل دمِعَت عيناه مثلاً كما دمِعَت عينا صاحب الرسالة حين كتبها؟!
هل تَنَهّدّ، ثم نظر للّاشيء، ثم عاد إلى السطور مرة أخرى مثلما فعل من كتبها؟!
هل ذاق شوقاً، أملاً، أو لوعة؟!
ماذا يكون حقاً "أياً كان ما شعر به؟!".
هل هو الفضول فقط؟!
ثم لماذا هذه الرغبة في معرفة ما دار بين قلبين يوماً ما؟!
ألا يحمل الأمر من القداسة والرهبة والحُرمة والتقدير ما يفرض على مَن يجد مثل هذه المقتنيات أن يدفنها بجوار أصحابها؟!
أعتقد أنه لو عَلِمَ أصحاب الأشياء أن أشياءهم الغالية تلك سوف ينتهي بها الأمر في أيدي هاوٍ ينشرها ليحصد شهرة أو يمتلكها رغبة في الامتلاك لأخفوها على الفور قبل وفاتهم!
ولكن لا أحد يعرف متى سيكون يومه الأخير، لو كان يعلم لربما أعدّ العدة وحاول التصرف في مقتنياته تلك، أو ربما أبقى عليها إلى آخر نفَس في عُمره!
لست أدرى هل هو التعلُّق بالشيء ذاته أم بالشعور المصاحب لحكاية هذا الشيء؟!
ولا أعلم الحقيقة كيف يصل البعض لدرجة عالية من التحكم في النفس فتُصبح كل الأشياء لا قيمة لها، ويبقى التعلق الوحيد بخالق كل شيء!
أذكر يوم أهدي جد صديقتي إليها أحمر للشفاه يوم عُرسها، كان قديماً منتهياً منذ زمن بعيد، ولكنه لم يكن قد انتهى في قلبه بعد.
لم يُخبرها قصته، فقط أخبرها أن تستخدمه لأنه يعتز به.
ربما كان لحبيبة قديمة جميلة لم يستطِع الفوز بها فتركت هي له تذكاراً ذا مغزى؛ ليبقى معه إلى الأبد!
أذكر أيضاً يوم أهدت جارتي لأختها خاتماً أهداه إياها حبيباً لم يشأ القدر أن يجتمعا ولم تستطِع هي الاحتفاظ بذكراه!
ألهذه الدرجة يترك الشيء أثراً ومعنى في قلوبنا.. يترك حياة أخرى غير تلك التي نحياها؟!
على ذكر الأشياء انتبهت فجأة للقلم الذي أخط به سطور مقالتي تلك، قد أهدتني إياه صديقة عزيزة يوم حفل توقيع ديواني الأول، وجدتني أتساءل: ترى ماذا سيكون مصيره؟
هل تجده حفيدتي يوماً ما فتلقيه في سلة القمامة؛ لأنه لم يعد يعمل!
انزعجت من تصوّر المشهد، قُمت على الفور وكتبت "وصيتي" رغم أنني لم أتم ربع قرن بعد!
أوصيتُ خيراً بقلمي العزيز، ثم تركت سطوراً فارغة لمقتنيات أخرى لا أعلمها بعد.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.