أين ذهبت ابتسامة المصريين؟

عربي بوست
تم النشر: 2018/04/21 الساعة 08:20 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/04/21 الساعة 08:20 بتوقيت غرينتش
Smiling muslim woman posing with her son outdoors

عندما فتحت حسابي على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" قبل مدة، طالعني منشور يخبرني بأن اليوم هو اليوم العالمي للابتسام، مطالباً إياي بأن أشارك أصحابي نشر الابتسامة، لأجعل شخصاً ما سعيداً اليوم!

وبالطبع، تجاهلت هذا المنشور، ولم أُشارك أحداً الابتسامة؛ لأن الحال أسوأ من أن يُجمّله نشر ابتسامة افتراضية، على موقع للتواصل الاجتماعي الافتراضي.. فالناس توقفت في الحياة الحقيقية عن الابتسام بشكل مثير للريبة، فكيف لابتسامة مزيفة، لَم نتكفل عناء رسمها على شفاهنا أن تُسعد أحدهم أو تجعله يُصدّق أننا اليوم نشارك العالَم الابتسام!

(2)

لا أعلم متى توقف الشعب المصري -ابن النكتة- عن الابتسام. هذا الشعب الذي قام بثورة عظيمة ألهمت العالم في يناير 2011، تلك الثورة كان يسخر فيها من نفسه، ومما آل إليه الحال؛ حتى إن الـBBC أعدت وثائقياً عنها سمَّته "الثورة الضاحكة".. ففي مثل هذه "الأيام السوداء"، نحتاج من يجرّنا من أسرّتنا ويُلبسنا ملابسنا، ويدفعنا دفعاً نحو الشارع، الذي لا نحبه، ولا يُحبنا، لنمضي وعلى أكتافنا أرطال من الطاقة السلبية.

أجاهد كي أحتفظ بطاقتي لنفسي ولا أوزّعها على الناس، فلديهم ما يكفي ويفيض عن الحاجة، غير أن الناس يزيدونني منها ولا يساعدونني كي أحتفظ بها لنفسي.

أحاول أن أكون تلك البشوشة، التي تبتسم في وجه الغرباء كي تهوّن عليهم زحمة الموقف، واختفاء السيارات الأجرة. لكن كلامهم اللاذع والمبطّن لكوني أدفع أجرة مقعد خالٍ بجواري، لا يجلس عليه أحد، تُسمم بدني.

أمنع نفسي يومياً من أن أرفع صوتي عالياً، وأُخبرهم بأني لستُ ثريّة ولديّ من المال ما يجعلني أحجز مقعداً خالياً بجواري، كل ما في الأمر، أني قررتُ أن أشتري جسدي، بمالي؛ كي لا يلمسني أحدهم ويتحرش بي، وكي لا تعتدي على خصوصية جسدي -بدعوى أننا نساء مثل بعض- إحداهن. وبرغم ذلك لا أَسلم من تحرش لفظي واعتداء كلامي.

(3)

في الطريق إلى القاهرة، أكتشف أني لا أملك أي أموال فكّة، وأن أقل فئة معي، هي 200 جنيه. فماكينة الصراف الآلي التي سحبت منها "مرتبي" أخرجته لي عدة ورقات من فئة الـ200 جنيه. أذهب إلى أحد الأكشاك الموجودة في الموقف لأسألهم على "فكّة" 200 جنيه، فينظرون لي نظرة تعجُّب كما لو أنهم رأوا كائناً فضائياً. أُخبرهم بأني سأشتري مياهاً معدنية وعصيراً، فيهزون رؤوسهم وهم يخبرونني بضيق، بأن ما معهم لا يُكمل باقي 50 جنيهاً.

أذهب إلى مسؤول "الكارتة" الذي يعرفني، يحاول أن يساعدني فيجمع لي كل ما معه من أموال. يعطيني كل الخمسات والعشرات المهترئة التي معه، فلا أعترض. أركب السيارة وأبدأ في عدّ النقود. يقترب أحد الباعة الجائلين، ويطلب مني أن أشتري منه نعناعاً طازجاً، وهو يركِّز ببصره على كومة الأوراق النقدية "الفكّة" التي في يدي. أعتذر منه لأني في طريقي للعمل ولا يمكنني شراء نعناع. يكلمني بجفاء، ويطالبني بأن أمنحه "شيئاً لله"، ويبدأ في سرد عبارات التسول المعروفة. أتأذى منه، ومن نظرته إلى أوراقي النقدية، وأسلوبه الغليظ معي، وكأن مساعدتي له أمر واجب عليّ.

هو لا يعرف قصتي ولا يعرف أن كل قرش معي محسوب أين سيذهب ولماذا. كل ما يعرفه أن في يدي كومة من الأوراق المالية، في حين أنه لا يملك شيئاً. أُخبره بأن ما معي ليس مالي؛ بل هي "أموال الناس" وأني في طريقي لدفع قسط جمعية، فيشير بيده لي متأففاً ويمضي.

(4)

يبدأ الناس في لمّ الأجرة معاً. يُخبر أحد الركّاب السائق بأن " واحد من خمسين" و"تلاتة من خمسين"، يصيح السائق متجهماً في وجه الرُكّاب: "أنا لو معايا 50 جنيه، هروّح مش هشتغل".

أقرر أن أفرّج أزمة، وآخذ من الركاب الـ100 جنيه، وأعطيهم أموالاً فكّة. ينظر لي السائق بتعجب، فأجد نفسي مضطرة إلى البحث عن مبررات. أخبره بأني نسيت محفظتي، واضطررت إلى فك 200 جنيه من قسط "الجمعية"، التي سأدفعها اليوم. يخبرني السائق بأن مسؤول "الجمعية" لن يأخذ القسط أموالاً "فكّة"، الكل يريد نقوده مجمدة. فيردُّ أحد الرُكاب بأن الـ200 جنيه تتحول إلى 20 جنيهاً، إذا ما تم فكّها. يؤمّن الجميع على كلامه. وأشعر أنا بالضيق؛ لأن امتلاكي 200 جنيه، صار جريمة شنعاء، يجب عليّ أن أعتذر عنها وأُبررها.

(5)

يتصادف أن أمرّ في شارع المنيل مع موعد خروج التلاميذ من مدارسهم. يتيح لي الاختناق المروري مشاهدة كرنفال الألوان الربيعية التي تسير على قدمين، فرادى، ومثنى، وثلاثاً. أبتهج وأنا أشاهدهم، وأسأل نفسي، متى صارت ألوان الزيّ المدرسي جميلة هكذا؟ ومتى خرجنا من إطار الأزياء المدرسية ذات الألوان المحددة، التي تُصنّف كل مرحلة دراسية.. البني/بيج والكحلي/لبني، والرصاصي الغامق/الرمادي؟

كان يسير على الرصيف تلاميذ في المرحلة الابتدائية يرتدون سترات وردية اللون وسراويل كحلية. يسبقهم بخطوات، فتيات ثانوي، يرتدون تنانير كحلية وسترات برتقالية. ويجاورهم تلاميذ مرحلة إعدادية، يتلألأون في سترات حمراء، وسراويل/تنانير كحلية.. وبعد مترو الملك الصالح، شاهدت طلبة في المرحلة الإعدادية، يرتدون زيّاً مدرسياً يتألف من درجات البنفسجي.

لكن وعلى الرغم من المشهد الاحتفالي الذي أضفاه حضورهم على شارع المنيل وكوبري عباس، فإن هذه الألوان البديعة لم تنجح في صبغ أرواحهم أو ملامحهم. فالتلاميذ كانوا يسيرون كالمنوَّمين، يرزحون تحت ثقل الحقائب المدرسية، مهدَّلي الأكتاف، تخاصم ملامحهم الابتسامة.

لأعي فجأةً أن هذه الألوان الكرنفالية، التي تتغيّر سنوياً، ما هي إلا حيلة من أصحاب المدارس، كي يُجبروا التلاميذ وذووهم كل عام على شراء زيّ مدرسي جديد، وأن هذا الزي الوردي المبهج، ما هو إلا ثقل جديد، على كاهل وليّ أمر تلميذ، اضطر إلى شرائه وهو مكفهر الوجه وعابس، الأمر الذي نقل عدوى العبوس إلى هذا التلميذ الصغير الذي يتلألأ في اللون الوردي.

(6)

اختفت من قنواتنا معظم البرامج الحوارية الجادة التي انتشرت بعد ثورة يناير، ليحل محلها برامج كوميدية ومسلسلات سيت كوم، وبرامج ساخرة، واسكتشات رديئة، في محاولة لوضع ابتسامة ما بالقوة على وجوه المواطنين. وبرغم كثرة هذه البرامج والمسلسلات القائمة على الإيفيهات الخارجة، فإن الابتسامة لم تعرف طريقها مرة أخرى لوجوه المصريين.

ربما كانت الحالة الاقتصادية سبباً من الأسباب، لكن المؤكد أن غيمة الظلم التي تظلل على البلد هي السبب الرئيسي لغياب الابتسامة. لذا، اعذرني -عزيزي "مارك"- لأني لم أنجرف لطلبك أن أشارك غيري الابتسام في اليوم العالمي للابتسامة. فالابتسامة، والبشاشة، قد غادرانا منذ أمد، وحل محلهما العبوس والاكفهرار.

هذا المقال تم نشره في موقع مصر العربية

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تسنيم فهيد
كاتبة مصرية
تحميل المزيد