كان موضوع السعادة يثير فضولي دائماً، فقرأت العديد من الكتب العلمية والفلسفية وحتى الروحية والدينية ومقالات عديدة عن موضوع السعادة… أوَليس هذا مبتغى جميع البشرية أو حتى جميع المخلوقات؟ استنتجت أن هنالك مختلف النظريات والتعريفات للسعادة، لكن الذي سأشارككم به في هذه التدوينة هي تجربتي الخاصة في طريق إيجاد السعادة التي كنا نشعر بها عندما كنا أطفالاً، حيث إنني مقتنعة بأن أي شخص في أي مكان في العالم، وفي أي وضع مادي أو اجتماعي، يمكن أن يطبقه ويشعر بالسعادة مثلي.
* السبب في عدم شعورنا بالسعادة كالأطفال عندما نكبر:
نعم شعرت وأشعر بالسعادة كالسعادة التي كنت أشعر بها كطفلة.
هل تتذكرين كيف كنت تشعرين بالسعادة عندما كنتِ طفلة؟ أقل شيء كرؤية غيمة مختلفة الشكل، ظهور قوس قزح كانت تشعرنا بالسعادة، هطول الثلج، زيارة الخالة، قطعة حلوى كانت تشعرنا بأننا ملكنا العالم.
لماذا تبهر الحياة الأطفال ولا تبهرنا عندما نكبر؟ لماذا يرى الأطفال الدنيا كبيرة لا حدود لها، بينما نرى الحدود والماديات أكثر عندما نكبر؟ يرى الأطفال السحر في الأجواء بينما لا نرى إلا المنطق والجد؟ الأشياء البسيطة كانت تشعرنا بالسعادة، فلماذا لا نجد السعادة فيها الآن؟ لماذا نعتقد عندما نكبر بأن السعادة غير موجودة إلا بالأشياء العظيمة؟ مع أن السعادة نفسها لا تتغير والعالم بأشيائه البسيطة لا يتغير، الشيء الوحيد الذي يتغير هو نحن، أي الإنسان عندما يكبر يتغير، وليس دائماً إلى الأفضل، هنالك أشياء سيئة تحدث لنا أحياناً، والتي قد تؤثر علينا بشكل سلبي فننسى الفطرة السليمة التي كنا عليها عندما قدمنا إلى هذه الدنيا.
لا أعرف ما الذي يغيّرنا حتى نبتعد عن الفطرة أهي التجارب السيئة التي نمر بها، أم الأناس السيّئون الذين يؤثرون فينا، أم هي قوى الشر التي لا تريد إلا السوء للخلق؟!
أحد الأشياء التي نتعلمها عندما نكبر هو التفكير ثم التفكير ثم التفكير.. وأقصد هنا التفكير المستمر بالماضي أو بالمستقبل، فمعظم الوقت إذا لم يكن جميعه يقضيه الشخص البالغ بالتفكير إما بشيء حدث أو سيحدث، ونفكر ونندم ونتمنى ونتأمل ونحلل ونتوقع ونتنبأ طوال اليوم، فنرهق أنفسنا دون أن نعلم ذلك.
ولكن الأسوأ من ذلك أننا ننسى أن نعيش في اللحظة، فلا ندرك جمال وعمق الحياة من حولنا، فلا نلحظ جمال الشجرة التي نمشي بجانبها كل يوم ونحن ذاهبون إلى عملنا في الصباح أو الفراشة التي توقفت للحظة على شباك السيارة الأمامي؛ لأننا كنا نفكر بالأعمال التي ينبغي أن نقوم بها ذلك اليوم.
هل حدث معكِ أنكِ كنتِ تشربين القهوة ولم تلحظي إلا بعد فترة أنك أنهيتِها ولا تتذكرين أنك شربِتها أصلاً وكيف كان طعمها؟ كنت تفكرين بشيء آخر فحرمت نفسك من متعة طعمها ورائحتها وحرارتها على لسانك، هذا بالظبط ما يمنعنا أن نختبر السعادة التي كنا نختبرها عندما كنا صغاراً؛ لأننا نسينا أن نعيش حياتنا لحظة بلحظة، أن تعيش حياتك بلحظتها هو الشعور بالسعادة، فالحياة نفسها هي سعادة أن تكوني حيةً كاف لجعلك سعيدة.
* ما هو نوع التفكير الذي أتحدث عنه؟ وما هي نتائجه السلبية؟
أود هنا توضيح نوع التفكير الذي أتحدث عنه، وهو التفكير المتواصل اللاإرادي أو حتى اللاواعي في معظم الأحيان، الذي تعودنا أن نمارسه في جميع ساعات حياتنا، وحتى وقت الصلاة أو الدعاء، معظمنا لا يستطيع التركيز والخشوع؛ لأننا متعودون على التفكير، وهنا لا أناقض فكرة أهمية تعلم الإنسان من دروس وأخطاء الماضي والتخطيط للمستقبل، فهما شيئان ضروريان وهما يحتاجان إلى التفكير المقصود والإيجابي، وليس التفكير السلبي المتواصل الذي أتحدث عنه.
التأمل تمرين يتحدث الإخصائيون عن فوائده ويمارسه العديد، وأنا أعتقد أنه لو قام جميع الناس بالكفّ عن التفكير المتواصل لما احتاجوا إلى القيام بالتأمل أساساً، شخصياً أعتقد أن التأمل هو الحالة الطبيعية للإنسان فالأطفال ذلك حالهم في معظم الأحيان، إلا عندما يكبرون وينسون تلك الحالة تدريجياً.
شخصياً أعتقد أن السبب في أننا نشعر أن الوقت يمر بسرعة البرق كلما كبرنا، هو السبب ذاته؛ لأننا لا نعيش جميع لحظات حياتنا، فتفوت علينا كما يفوت القطار على المسافر الذي انشغل بقراءة رواية طويلة.
في الماضي كانت الحياة أبسط وكان الناس على احتكاك أكثر بالطبيعة مما كان السبب في إدراكهم للحظات حياتهم وجمال العالم من حولهم، أكثر منا هذه الأيام، وهذا أيضاً برأيي سبب تقديرهم للعلاقات الاجتماعية أكثر منا.
أورد هنا مثالاً بسيطاً جداً على سلبيات التفكير المتواصل في حياتنا اليومية.. تكون العطلة الأسبوعية عادة يومين في الأسبوع، في بلدي هما يوما الجمعة والسبت؛ يوم الجمعة يستمتع به الجميع كثيراً لكن لا يستمتع الناس بيوم السبت كاستمتاعهم بيوم الجمعة؛ لأنهم يتذكرون مراراً وتكراراً أن اليوم التالي ليوم السبت يوم عمل، حتى لو كانت نشاطاتهم خلال اليومين متشابهة، فهما يومان متشابهان!
* كيف تتقنين فن الامتناع عن التفكير؟
التفكير المستمر كالإدمان لن تستطيعي التخلص منه مرة واحدة.
ينبغي أن تتمرني على عدم التفكير، فالممارسة هي الأساس لإتقانه كإتقان أي شيء آخر، حاولي عدم التفكير بشيء، بل انتبهي إلى الأشياء حولك، انظري إليها، لا تحاولي أن تعطيها اسماً أو صفةً، فقط انظري بتمعن واستمعي إلى الأصوات ولاحظِي الروائح وملمس الأشياء التي تلامسك، وحاولي أن تلاحظي ما إذا كانت هنالك نسمة من الهواء حولك، وانتبهي إلى الإضاءة والظلال في الغرفة، سترين الجمال في كل شيء.
في البداية قد تصمدين على تلك الحال عدة لحظات، لكن ستعاودين التفكير، لا يهم، حاولي أن تعودي إلى الوضع السابق كلما لاحظت أنكِ بدأت بالتفكير، وهذا هو التمرين الذي ينبغي أن تقومي به كلما استطعت.
تستطيعين القيام بالتمرين في أي وقت خلال اليوم، مثلاً عند قيامك بغسيل وجهك في الصباح اشعري بملمس الماء وحرارته وصوته عند الجريان، وعندما تكونين مع زوجك أو أختك مثلاً حاولي التركيز على الشخص، على وجهه وصوته وحركاته، حاولي الشعور بروحه، امنحيه كل تركيزك في ذلك الوقت… شيئاً فشيئاً وكلما تمرنتِ أكثر تستطيعين القيام بالكفّ عن التفكير لفترات أطول، حتى يصبح الأمر سهلاً وطبيعياً.
* فوائد الكف عن التفكير المتواصل:
بالإضافة إلى الشعور بالسعادة، فإن هذه الممارسة لها آثار إيجابية على حياتي أذكر التالي منها:
1- ساعدتني هذه الممارسة على القدرة على التركيز، فأستطيع وبكل سهولة التركيز على المهمة التي أقوم بها ولا يشتتني تفكيري بأمور أخرى، فأحصل على نتائج أفضل وفي وقت أقل.
2- التأثير الإيجابي على الصحة وطول العمر، وأعتقد أن الجميع سمع عن فوائد التأمل وآثاره التي لا تُعد ولا تحصى.
3- اختفاء الشعور المزعج بأن الوقت يمر بسرعة، وأن السنين تركض كأنك لم تعيشيها كلها، ولا أعرف عن الآخرين لكنّي شخصياً أكره هذا الشعور وفي فترة ما من حياتي كنت أحاول أن أجد طرقاً لأجعل الوقت يمر ببطء، ولكن اكتشفت بالتجربة أن الكفّ عن التفكير المتواصل هو الحل.
4- القدرة على النوم بسرعة، وعدم قضاء دقائق وحتى ساعات في التقلب ومحاولة النوم.
5- تقدير الحياة والقناعة بما رزقني الله؛ لأنني أرى نعماً عجزت عن رؤيتها في السابق لانشغالي عنها بالتفكير المتواصل سابقاً.
6- رؤية الآثار الإيجابية في علاقاتي الاجتماعية والعائلية؛ لأنني أصبحت قادرة على التركيز أكثر على الآخرين.
7- القرب من الله.
وأعتقد في النهاية أن فوائد الكفّ عن التفكير المتواصل لا تُعد ولا تحصى، لكن أحتاج إلى التجربة لفترات أكثر لأتعلمها، وسأقوم بالتدوين عن كل شيء جديد أختبره في هذا المجال عندما تسنح لي الفرصة.
يبحث الجميع عن السعادة ويعتقد الكثير أنها موجودة في اقتناء الأشياء، أو بالقرب من أشخاص معينين، فيسعون للحصول على الأشياء أو التقرب ممن يحبون، لكنهم يكتشفون بعد فترة من الاستمتاع بما اعتقدوا أنه يسعدهم، بأنهم ليسوا سعداء من الداخل فيبحثون عن أشياء جديدة أو أناس جدد بحثاً عن السعادة، ويدورون في حلقة فارغة.
إلى جميع مَن يبحث عن السعادة… ليس هنالك شيء مادي أو شخص مهما تحبونه يستطيع أن يمنحكم السعادة، وأقولها عن تجربة؛ لأنني حصلت على كل ذلك، بل الحياة بلحظاتها هي السعادة بذاتها، وهي بمتناول جميع مَن منح نعمة الحياة، هي ليست بالخارج وليست بعيدة، هي أقرب مما تظنون فقط توقفوا وعيشوا اللحظة.
تم نشر هذه المقالة على مدونة بيت زين
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.