ما زلت أذكر صوت أمي المرتبك وهي توقظني: "انهض بسرعة.. غارة!".
لم أفهم ما الذي تعنيه كلمة "غارة"، لم يتجاوز عمري آنذاك 6 سنوات، نهضت بسرعة من فراشي في رعب، بقية إخوتي كانوا مستيقظين ويقفون بجانب الوالدة.
أصوات قادمة من الشارع لأناس يركضون، وآخرين يتصايحون، الكهرباء مقطوعة، الوالدة كانت في ارتباك لا أنساه… وضع خطير ولعل غياب والدي -عليه رحمة الله- الذي كان في مهمة خارج البلاد قد زادها توتراً.
ولأننا نقيم في عمارة سكنية عالية طلبوا منا إخلاءها، مَن الذين طلبوا؟ لا أعلم، الناس والجيران كانوا يتحركون وحدهم ويقدمون النصائح وأحياناً الأوامر.
كنت أتبع أمي أينما ذهبَت في ثقة عمياء رغم صعوبة الموقف الذي كانت فيه.
أخذنا أحد الجيران إلى بيته الذي يحوي طابقا سفلياً تحت الأرض، الازدحام كبير، والهلع يبدو على الوجوه، أتذكر أنني سمعت العديد من الأحاديث، أحدها يقول إنها محاولة من الأميركان لاحتلال البلد، وآخر ينفي بشدة ويشيد بقوة جيشنا الباسل.
لا مصدر للمعلومات حينها إلا ما كان ينقل عبر الراديو التابع للحكومة، الذي يؤكد صمود القائد، وإسقاط طائرات العدو، وسط أصوات رماية كثيفة، عرفت فيما بعد أنها أصوات المضادات الأرضية.
غادرنا إلى منزل جدّي، كل الطرقات مظلمة كما هو حال البلاد في تلك الفترة، منعونا حتى من استخدام مصابيح السيارة خوفاً من قصف الطيران بزعمهم، أصوات المضادات الأرضية لا تتوقف مع سماع أصوات لطائرات لا ندري هي معنا أم علينا؟!
تملّكني خوف شديد لا يمكنني نسيانه، شعور غريب لا يزال يلازمني حتى اللحظة رغم أنني قد شارفت على الأربعين من عمري، خوف من المجهول… من العدو… من بلادي نفسها! لا أدري.
في صباح اليوم التالي اندلعت الاحتفالات عبر شاشة التليفزيون الليبي بالانتصار في المعركة وهزيمة الإمبرالية الأميركية شر هزيمة، وخرج علينا مَن يطمئننا بأن القائد بخير لم يمسسه سوء بفضل اختبائه في مكان آمِن!
كلامٌ كثير عن الرجعية والاستعمار، وعن المبادئ والقومية الذي لم يستوعبه عقلي الصغير في ذلك الوقت، صور بيت العقيد المستهدف، مشهد لجثة على شاطئ البحر قالوا إنها لطيار أميركي، أسماكنا الشجاعة أخذت نصيبها من هذا الجندي الجبان، وحتى يتأكد الجميع أنه أميركي أخرجوا لنا الدولارات من جيبه، ولا أدري ما الذي يدفع طياراً حربياً في مهمة عسكرية إلى حمل مبلغ من المال؟!
لا مزيد من التفاصيل الأخرى عن هذه الغارة، مجرد أخبار تعبوية لا أكثر، النصر ثم النصر لنا، وليأتوا من جديد فنحن في انتظارهم وكذلك الأسماك!
أنشدنا كثيراً في المدرسة عن شجاعة قائدنا وجيشنا، بل وحتى شجاعة أسماكنا أيضاً، لم نكن ندرك حينها أننا عشنا أغلب لحظات الخوف وحدنا.
ففي الوقت الذي كنا نسمع فيه ضجيج المضادات الأرضية واللحظات التي كان رجال الأمن يمنعوننا حتى من تشغيل مصابيح السيارات ويدهنونها باللون الأصفر، كان الطيارون الأميركيون قد غادروا أجواءنا، ولا أُبالغ إن قلت وصلوا حتى إلى قواعدهم سالمين، حتى الأسماك ليلتها لم تسمع بتلك الغارة ولم تنَل شيئاً من لحم ذاك الجندي المزعوم، رغم نيلها مراتب الشرف والشجاعة في الإعلام الليبي.
إنها الأدوات المهمة لزراعة الخوف والرهبة وصناعة الأعداء، حتى يمكن خلق انتصارات وهمية تزيد من رصيد السادة؛ لنتغنّى بها عشرات السنين.
تلك الحادثة أشعلت في داخلي خوفاً غريباً لم ينطفئ إلى يومنا هذا، رهبة لا أجد لها كلمات لوصفها، لم أعُد أثق في أي شيء بعدها في بلدي، ولا أدري إن كانت تلك الغارة قد أخافتني حقاً، أو أن تعامل النظام في ذلك الوقت مع تلك الحادثة نجح في إدخال الرعب والخوف في نفسي من كل شيء!
ربما تكون تلك الغارة قد أيقظت "وحش" الشك الكامن في داخلي؛ للبحث الدائم عن الحقيقة -وما يترتب على ذلك من قلق مزمن- واكتشافي أننا نعيش في عالم كبير مليء بالكذب والخداع… أقول ربما!
* في ذكرى الغارة الأميركية على مدينتي بنغازي وطرابلس 15 أبريل/نيسان 1986.