في رثاء البدايات

عدد القراءات
649
عربي بوست
تم النشر: 2018/04/19 الساعة 08:04 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/04/19 الساعة 08:04 بتوقيت غرينتش
Five leaves on wooden background

يُقال إنّ اللّقاء الأولَ عادةً ما يَعْلَقُ بالذاكرة إلى الأبد، بتفاصيلهِ وجزئياته التي تُشبهُ لوحةَ فسيفساء، كلُّ قطعةٍ من تلك اللّوحة تمثلُ أهميةً كبيرةً عندَ صاحبها.

فلو جرَّبتَ أن تسألَ أحدهم كيف تعرّفتَ على صديقك أو زوجتك؟ أو كيفَ كان لقاؤك الأول بزوجك؟ ستسمعُ إجابةً دقيقة، يبدو فيها الذي أمامكَ، وكأنه يسردُ قصةً حدثتْ معهُ بالأمس، بل إنّه يتخيّلها أمامَ عينيْه كمشهدٍ في فيلمٍ يُعرَض للتوّ، فيسرحُ بالتفاصيل وهو يرويها، يبتسمُ تارةً ويحزنُ تارةً أخرى، معترفاً بانبهارهِ الأول، حزيناً على جمالِ تلك اللّحظة، يتوقُ للعودةِ إليها، علّهُ يُصلِح أو يضيفُ عليها، فتغدو أجملَ ممّا كانتْ عليه. كما أنَّ نهاية كلّ قصةٍ هي الأخرى تحفُرُ في الذاكرة كثيراً، تشوّشُ عليه كأزيزِ أقلامِ الرصاص على حائطٍ متعرّج، فتتدحرجُ أمامكَ الدمعة تلو الدمعة؛ لتؤرقك وتصرخَ نادماً: "ليتني لم أعرفك"!

ويقالُ أيضاً: إنَّ موقفاً سيّئاً واحداً كفيلٌ بأنْ ينسِفَ في قلبنا كلّ مواقفِ ذلكَ الشّخص الإيجابية، وذكرياته الجميلة معنا، فتقلّ مكانتهُ في قائمتنا، ويتضاءلُ قرارُ منحهِ الفرصة الثانية، ونصبحُ وكأنّنا نفتّشُ عن أيّ خطأ جديد، أو موقفٍ سلبيّ؛ كيْ نشطبَ ذلك الشّخص من حياتنا تماماً.

مَن منّا لم يرغبْ في الاحتفاظِ بالصور الجميلة لأصدقائه، وأقربائه وأحبّائه؟ مَن منّا لم يحزن عندما خَسِر عزيزاً، لأمرٍ سخيف، أو حادثٍ جَلَل، مَن منّا لم يجلس بينه وبين نفسِه، آخذاً نَفَساً عميقاً، يتذكر ويتمنّى لو أنّ هذا الأمر لم يحدُث، كي لا يفقدَ مَن يُحب؟

مَن منّا لم يَلُم صديقاً، أو عزيزاً قائلاً له:

"أنتَ تغيّرتَ كثيراً.. ليتكَ لم تفعلها كَمَن سبقوك"؟!

مَن منّا لم يقطعْ عهداً على نفسِه بأنْ لا يثِقَ بأحدٍ مرةً أخرى، مهما كانَ هذا الشّخصُ استثناءً، وبأنه سيتعلم من أخطائه السابقة، ولن يُلدغَ من نفس الجُحْر مرتين؟!

مَن منّا لم يشْتكِ منْ صديقٍ أو صديقةٍ تغيّروا؛ لأنّهم تزوجوا أو حصلوا على منصبِ عملٍ عالٍ، أو مكانةٍ اجتماعية راقية؟!

إنّه سحرُ البدايات الذي يفتننا دائماً، نأخذُ الانطباعَ الإيجابيَّ الأول، ثمَّ نبني عليهِ كلّ توقعاتنا القادمة، نرفض أن يكون مَن أمامنا سيّئاً للدرجة التي يجرحُنا فيها ويمضي، نجزِم بأنّهم سيبقون كما عهدناهم، ونثقُ بوعودهم بأنّهم مختلفون عن الجميع وبأنّ الزمانَ لن يغيرهم، نتخاطرُ مع أنفسنا بأنّ هذه المرة استثناء، فنخسر الرّهان، ثمّ تنهالُ علينا بعدها الصّدمات، وينقلبُ كلٌّ منّا إلى نائحةٍ يشكو هجراناً وخذلاناً وخسراناً.

نعم، للبدايات ميزتُها الخاصة وعبقُها اللافِت، وجمالها الأخّاذ، هي ما تتركُه داخلكَ من مشاعر متضاربة، وما ترسمُه في مخيلتك من حُسنِ ظنٍّ ونوايا، هي عناقُك الأول للحقيقة، حدسُك الصادقُ الأول، هي ثقتك الأولى بكلّ مَن خذلك من قامات وقُدوات.

إنّها يومك الأول في المدرسة والجامعة، هي الفخّ الأول الذي وقعتَ فيه دون أن تجدَ يداً تمتدُّ لتسحبك، هي المرة الأولى التي ركبتَ فيها الطائرة، هي اللّقاء الأول، الشّغف الأول، هي المرة الأولى التي صارحكَ فيها مَن تحب بأنّه يحبك، هي المرة الأولى التي واجهتَ فيها مجتمعك بقوةٍ قائلاً: "لا"، في وقتٍ كان الجميعُ ينتظرُ منكَ أن تقولَ: "نعم".

هي المقالُ الأول، المظاهرة الأولى، الكتاب الأول، الولد الأول، هي النّجاح المميّز الأول، الجائزة الأولى، وهي أيضاً الفراق الأول والأخير. هي كلّ حَدَثٍ يبدأُ جميلاً مدهشاً، ثمَّ يشتعلُ مُخلّفاً داخلكَ آثار أعقابِ سجائر لم تنطفِئ بعد! إنّها باختصار، كالموتِ تأتي بغتة!

لذا فإنَّ جميعَنا يحبُّ البدايات، ويخافُ النهايات.

نخافُ على قلوبنا أنْ تتشّققَ بعدَ أنْ سُقِيت طويلاً بِعَذْب الاهتمام، نخافُ على أرواحنا مِن أنْ تتلّظى بنارِ الفراق، نخافُ على طموحاتنا مِن أنْ تتحطّم عندَ أول مُفترق، نخافُ من التجربة الأولى والغربة الأولى، نخاف من الصّدمة الأولى، نخافُ أن نتقمّصَ دور شاعرٍ جاهليّ، نكتبُ قصائد في رثائها تارةً والوقوفِ على أطلالها تارةً أخرى.

نخافُ من أن نسيرَ بخطًى ثابتة نحو سكّة البدايات، فنتُوهَ بين أبوابها، بالرّغم مِن أنْ لا حواجز تستوقفُنا ولا مطبّات، نخاف مِن أنْ نجلسَ على حافةِ الوجع، ونتذكرهم.

فتتراقصُ أمامنا صور الذينَ رحلوا، ومواقفُ الذين تغيّروا، وتُتعِبَنا بعدها الذاكرة بتفاصيلها، وتُشقينا المواقف، ونتعذّبَ بملوحةِ دموعنا، وخيْباتهم، نخافُ أن نركلَ ذكرياتهم بعيداً، فتعودَ إلينا أشدَّ وأقوى، نخافُ أنْ نطاردَ صورهم، فلا نجدَ إلاّ ظلاً مُزيّفاً.

نخاف أنْ تتحوّل خيباتُنا إلى كَدَماتٍ، يتعرّفُ عليها القاصي والداني، ولا نستطيعُ أن نخفيها حتى بمساحيق التجميل.

نعم، نخافُ ولا شيءَ أصعبَ من الشُّعور بالخوفِ مِن كلّ بدايةٍ جميلة؛ لأنّنا اعتدْنا أنْ تكون أفراحُنا مؤقتةً، هَلِعَةً، فَزِعة، ينالُ منها الفراق والبكاءُ سريعاً، ولا حلَّ أمامنا سوى في الاعتياد أيضاً على رفع سقْفِ التوقعات، والاستعداد للنهايات دائماً، فهي الأحقُّ بالخوفِ والرّهبة.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
خولة شنوف
كاتبة ومدونة جزائرية
تحميل المزيد