رحل الملك، قُتل العقيد، مات المشير.. ماذا بعد؟

عدد القراءات
6,413
تم النشر: 2018/04/17 الساعة 14:17 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/04/18 الساعة 15:07 بتوقيت غرينتش

تتضارب الأنباء وتتعدّد الروايات، وبين الأُمنية والواقع، وبين تأليه الأنصار وشيطنة الخصوم، في رحلة البحث عن حقيقةٍ لا تزال طيَّ التعتيم الرسمي من قيادات الشرق الليبي التي ما انفكّت تنفي وتطمئن، وإعلامٍ مناوئ -في معظمه- يضخّم ويهوّل ويبث أخباراً في ثوب أمنيات طفولية لا تخلو في كثير من الأحايين من الكيد السياسي ليس إلّا، بين كل هذا وذاك يبقى سؤال المرحلة معلقاً في ليبيا منذ أيام بين أرض الواقع وفضاء الظن الذي لا يُغني من الحق شيئاً.

ماذا بعد حفتر؟

تضاربٌ في التصريحات وتخبُّط في الآراء وغياب للمهنية وتسطيح للأمور، يجعلك بدايةً تقاطع دون تردد كلَّ ما يمتُّ بِصِلة لإعلام محلي تشحذه النوايا القارةُ سلفاً، كما يضعنا في الوقت نفسه بين قراءَتين لا ثالث لهما:

السيناريو الأول يقدمه لنا خصوم حفتر في شكل حقيقة دامغة لا تقبل أي جدال، وهو أن الرجل يُعدّ العقبة الأولى والوحيدة أمام الاتفاق السياسي والمصالحة الوطنية، وتوحيد البلاد وتنظيم انتخابات نزيهة، ومن بعدها الاستفتاء على الدستور، وتجنّب الحرب المحتملة في درنة، وربما في طرابلس في وقت ليس بالبعيد، وهذا التشخيص قائم في الأساس على نوع من الكسل الذهني، والاتكالية غير الجديدة تضع كل البلاء في شخص، وتدعو عليه بالموت لتُحل فجأة كل المشكلات، في مشهد مكرر عن معارضي القذافي في 2011.

أما السيناريو الثاني فيروّج له الأنصار ولا يقل طوباوية عن سابقه، غير أن تسويق آرائه على لسان مسؤولين غربيين وصحافة غربية لطالما ارتبطت في أذهاننا بالمهنية والمصداقية العالية جعله الأقرب إلى عقول كثير من المتابعين، وهو فرضية الفوضى المحتملة التي ستحلّ بليبيا، والشرق على وجه التحديد، في حال تأكّد موت حفتر.

غياب الرجل في منظورهم ربما يتسبب في انشقاقات داخل الجيش الذي أفنى حفتر أكثر من 5 سنوات في إعادة تأسيسه، مدعوماً من قوى دولية وإقليمية، على رأسها الجارتان الكبريان مصر والإمارات، وانقسامات بين القوى السياسية والعسكرية المحسوبة على تيارات قَبَلية ومناطقية ودينية، مخلّفة مزيداً من الفوضى التي ستسمح لـ"داعش" و"القاعدة" بإعادة تموضعهما في ليبيا ومحاولة تعويض خسائر السنوات الثلاث الأخيرة.

سيناريوهان لا ثالث لهما، هذا كل ما تقدمه وسائل الإعلام في الداخل والخارج على حد سواء تقريباً، يغيب عنهما عمقٌ وحياديةٌ شبه مفقودة على الدوام في قراءة المشهد الليبي قراءةً تاريخية وديموغرافية متأنية من أجل تحليل مركبات السلطة في ليبيا التي طالما اتّسمت بالتعقيد، شريطة ألا نقع في تبسيط مُخلّ، الأمر الذي لن يحدث قطعاً إذا ما اختصرت المعادلة الليبية وصراعها القائم منذ سنوات بين الهيمنة الخارجية وأدواتها الإقليمية المدفوعة بمطامع الذهب الأسود والموقع الاستراتيجي المزروع في خاصرة أوروبا، وبين التحالفات القَبَلية القائمة على المصالح ولا شيء أكثر في الداخل.

يمكننا تلخيص تاريخ ليبيا القديم والحديث واختصار المشهد الذي يحار أغلب المتابعين حالياً في فهمه وتفكيكه، لكن الأمر الذي قد يبدو لأكثرنا في غاية التعقيد يمكن اختصاره طبقاً لنظرية كارل ماركس "الاقتصاد هو المحرك الأساس للتاريخ" في كونه مجرد صراع على الموارد: النفط والغاز والسواحل الأطول المطلّة على القارة العجوز في جنوب المتوسط، وهذا العمق الإفريقي الاستراتيجي منذ الأزل طريق القوافل والهجرة والسلاح والأفيون ومشتقاته أيضاً في رحلة الشتاء والصيف من مراكش إلى تل أبيب.

وربما من جملة ما يمكن ذكره في هذا المقام وعلى عَجَل أن في ليبيا -أول دولة أُنشئت بقرار من الأمم المتحدة- كل ما يقال عن الأيديولوجيا هو محض ظلال لصراعات إقليمية، فلا الإسلامي هنا إسلامي، ولا العلماني كذلك، ولا يمين هنا ولا يسار، إلا في عقول قلة قليلة ممن آثروا البقاء في المنافي من المبتعثين إلى جامعات أميركا وأوروبا في سبعينيات القرن الماضي، أما المقيمون على هذه الأرض فلم يجمعهم ويفرقهم أكثر من تحالفات نسجتها المصالح، هي مَن جاءت بإدريس السنوسي من منفاه في القاهرة أميراً على برقة في 1949، ومنها ملكاً على البلاد بعد عامين، وهي مَن أبقت ذلك الضابط الشاب 42 سنة في الحكم بعد انقلاب عسكري ناعم سنة 1969.

التحالفات ذاتها هي مَن قسمت البلاد بالبراغماتية نفسها بين فبراير/شباط وسبتمبر/أيلول في 2011، كل حسب قربه وبُعده من السلطة وكمّ المكاسب التي من المفترض أن يحققه في ظل النظام الجديد، وهكذا الوضع دواليك منذ سبع سنوات حتى لو حملته النخب ما حملته من مصطلحات السياسة والأيديولوجيا، ومهما أطلقت عليه شعارات الوطن والوطنية، وحمّله فقهاء السلطة ما حملوه من فتاوى الحق والباطل، وحتى لو اتخذ الأمر شكل حرب على الإرهابِ مثلاً الورقةِ الرابحة الأكثر رواجاً التي أكسبت حفتر كل هذا التأييد من القوى الكبرى دولياً وإقليمياً، وكل هذا الاكتساح في شرق البلاد على وجه التحديد في انتخابات غير معلنة.

وخلاصة القول أن الأمر بعد حفتر لن يكون كما هو عليه في وجود هذا الجنرال السبعيني صاحب الكاريزمية القوية والعلاقات الواسعة، والفوضى تبقى احتمالاً مطروحاً بقوة في غياب المؤسسات والعمل المؤسساتي الحقيقي، وطالما كان التعامل مع بناء الجيش وبسط الأمن والحرب على الإرهاب رهينة رجل يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ويصاب بسكتة دماغية ويموت مثل باقي البشر، غير أن الأمر لن يسوء أكثر مما هو عليه الآن، وإن تبدّلت التحالفات بتغيّر المصالح فلا موت العقيد ولا المشير سيغيّر شيئاً في التركيبة القَبَلية والاجتماعية في برقة وليبيا بشكل عام، وإن أخذت البدائل تتطور بتطوّر الوضع في أشكال تُبقي الجوهر وتُبدل المظهر بما تقتضيه المرحلة.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
عبد العزيز الوصلي
صحفي ليبي
تحميل المزيد