خرافة “الاختلاف لا يفسد للود قضية”!

عربي بوست
تم النشر: 2018/04/17 الساعة 08:40 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/04/17 الساعة 12:14 بتوقيت غرينتش
Two Caucasian men screaming at each other. Mature adult around 40 years and a senior, in red and blue pullovers. Generation portrait, father and son. Isolated on white background..

بترديد ببغائي لعبارة "الخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية" تبدأ في أوطاننا الاختلافات في الرأي، وتنتهي بالبحث عن أقرب محامٍ لرفع قضية سبّ وقذف وشتم على شريك الود الذي لفظ أنفاسه الأخيرة، بعد أن دهسه اختلاف عابر هنا أو هناك، فالاختلاف عندنا لا يُفسد في الود قضية واحدة، بل يفسد كل قضاياه.

إن ذلك -في رأيي- يعود لسببين مهمين:
الأول: أن المستبّد الذي في داخلنا يستحوذ علينا، قد استوعب كل حواسنا وقوى إدراكنا. والثاني: هو أننا لا ندرك مسؤولية القلم الذي نحمله.

في الأول "كون المستبد الذي بداخلنا يستحوذ علينا" يبدو المشهد في بدايته إيجابياً، فجميعنا يكره الطغيان والاستبداد، ولكن ما إن يتعرض أحدنا للانتقاد حتى يتلبسه شبح طاغٍ صغير يأخذ في الانتشار والنمو والتمدد إلى أن ينقضّ عليه، وبلا وعي أو إدراك سيردد حينها الكلام ذاته الذي يردده المستبدون؛ إذ يدأبون دائماً على شخصنة الخلاف مع من يعارضهم، فيتعاملون مع آراء مخالفيهم على أنها سهام سامة هدفها النيل من أشخاصهم، غافلين عن كون المعارضة والخلاف شيئاً أشبه بالحتمي؛ إذ "لكل شيء ضد".

ثم وبعد أن يتمدد هذا الاستبداد -شيئاً فشيئاً- داخل الإنسان برمته، فإن لذة غريبة كل الغرابة إذ ذاك تسيطر عليه، كغرابة التناحر ذاته الذي يعيشه نتيجة اختلاف الرأي، إنها لذة الكراهية، تجتذبه من نفسه، وتقتلعه من جذور محيطه وما حوله، وتنسيه ماضيه، وتخدّر حواسه عن التنبّه لمستقبله، تأسره في زنزانة الوهم وتقتل في نفسه رغبة الوصول إلى الحقيقة، وتُعيد صياغته في نهاية المطاف على هيئة ظالميه.

بهذه الطريقة يبقى الاستبداد موجوداً حتى بعد أن يذهب فاعلوه؛ لسبب بسيط ومرير هو أننا نكره الاستبداد، ولكننا حيث نقوم بتشكيل أنفسنا على شاكلته، نُديم وجوده.

في السبب الثاني "كوننا لا ندرك مسؤولية القلم الذي نحمله" نتهافت إلى مواقع التدوين، نفرح بالمدح الزائف لما نكتبه، نتمثل دور الطاووس ونعيش قصوراً من الغرور عاجية، إلا أننا نغفل عن مسؤولية المخلوق الأول في الوجود، القلم.

عن أي مسؤولية أتحدث أنا وسط هذه الفوضى! عن مسؤولية تُثقل كاهلك بحمل وعي أمة، أمة تحتاج لأصوات العقلاء والحكماء بعد أن صار رموزها محبطين يروّجون لأفكار تدعو إلى الانهيار الشامل كبداية ضرورية لبناء الأمة من جديد.

وما المشكلة في وجود المحبطين في ميادين السياسة والاجتماع والقلم؟ إننا قوم نعطي الحرية لكل شيء، وهذه إحدى حرياتنا "حرية الكلمة"، والمحبطون يمارسونها كغيرها من حريات.

بالمناسبة بتُّ أكره كلمة الحرية، وذلك لفرط استخدامها في السلبي من أسلوب حياتنا، فبمجرد أن تقرع سمعي أقول "أهلاً بالفساد"، وبمعزل عن هذه النكهة السلبية التي شابت هذا اللفظ، إلا أن حرية الكلمة تبقى لها قيمتها عند الجميع، حتى أولئك الذين يخافون كلمة الحق، فإنهم لا يجرؤون على الجهر بالعداء.

ولكن المشكلة ليست في الكلمة وحريتها، بل المشكلة في أن يكون صاحب الكلمة كالجماهير من المحبطين، فمشكلة هؤلاء أنهم أناس تافهون -على حد وصف المفكر الأميركي إيريك هوفر- يجدون في نشر الكراهية التي صاغتهم شيئاً يمنح حياتهم الفارغة معنى وهدفاً؛ لذلك فإن شعاراتهم تجذب إليهم الجماهير وجلُّها على شاكلتهم، جماهيرهم المحبطة تفضل أن تكون جزءاً من مجموع غاضب يتربّع عرش تدبيره من يفكر لهم وعنهم، ويلقي على مسامعهم ما يروي ظمأ غضبهم من مفردات، على أن يكونوا أفراداً مُطالبين بتحمّل مسؤولية التفكير والتعقل.

هنا تدرك عظمة مسؤولية قلمك، قلمك هو مَن يحدد نوع الحريات التي يجب أن تعطى، ويمنع ظهور حريات جديدة يسعى لها أولئك المحبطون، حريات الكراهية والتخويف والكذب والتعذيب والقتل دون خجل أو ندم.

تلك المسؤولية تعظم في عينك عندما تدرك أنها تمنع نشوء ذلك الحق الذي وصفه "دوستويفسكي" بأن له جاذبية لا تقاوم، حق الانتهاك.

جاذبية حق الانتهاك هذه تجعل من الداعين إلى التعقل والتفكير هدفاً للسخرية، القول الفصل هنا للقلم، ذاك المخلوق الذي يصفه الكاتب توفيق الحكيم بأن مداده يذهب هباءً، غير مدركين أن غيطان النفوس تحتاج إلى أجيال حتى تصل إلى أغوار مياه الأفكار، ويُهيّأ أديمها للنبت والإثمار.

مدونات الجزيرة

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
ولاء أمين
طبيبة يمنية
تحميل المزيد