يوسف شاهين.. لماذا لم يفهمه الجمهور؟

عربي بوست
تم النشر: 2018/04/16 الساعة 07:42 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/04/16 الساعة 07:42 بتوقيت غرينتش

"ما سمعتش يا غايب حدوتة حتتنا؟" إذا سألت نصف أهل مصر عن أفلام يوسف شاهين فسيخبرونك بلا تردد أنهم لم يفهموا نصفها في أحسن الأحوال شيئاً.

وأنا أحب شاهين وأجده، كما يجده الكثير من محبي السينما، مخرجاً عظيماً وإنساناً رائعاً؛ لذا فأنا هنا أبحث معكم عن إجابة للسؤال: لماذا لم يستمع أهل مصر -في أغلب الأحيان- لحواديت حتتنا التي صنعها "الغايب" جسداً والحاضر روحاً وفناً.. يوسف شاهين.

لتخصيص الحالة سنتحدث عن أحد أفلام شاهين الذي تنطبق عليه لعنة "لم يفهمه الجمهور" سنتحدث عن "اليوم السادس".
وهو فيلم من إخراج وسيناريو وحوار وإنتاج شاهين في عام 1986م عن رواية بنفس الاسم للأديبة الفرنسية "أندريه شديد"، تتحدث عن "قِرداتي" يسمى "عوكا" يقع في حب سيدة تكبره بعقدين من الزمن تُسمى "صديقة" وتقع الحكاية في الأربعينات في مصر التي تضربها الكوليرا، ويُصاب ابن البطلة بالوباء وتستمر الحكاية لمدة ستة أيام هي الفترة التي تمر حتى يُشفى الطفل أو يموت وهي نفس الفترة التي يستمر فيها "عوكا" في محاولة كسب قلب وجسد "صديقه".

هل شاهين حقاً عبقري؟
إذا كنت تجلس في صالة السينما اليوم فستكون شاكراً لسنين من التطور الذي حدث في عالم السينما، فحوّله من عالم بالأبيض والأسود إلى عالم تتحدث فيه الألوان، ومن عالم صامت إلى عالم تتمايل فيه فوق كرسيك على نغمات الفيلم الذي تراه.. شاهين وفي منتصف الثمانينات كان عبقرياً، وكان كما يُقال "سابقاً لزمانه".

عبقرية الصورة والصوت والتكنيك في اليوم السادس:
منذ البداية يصور الفيلم حياً فقيراً ومهدماً وقاتماً في الأربعينات؛ ليعبر به شاهين عن أطلال مصر تحت الاحتلال البريطاني التي يحكمها الفساد، وتطبق على أرواح أهلها الكوليرا، وأنت هنا ولو لم تكن مصرياً حتى تعرف منظر أحيائنا، ولو لم تكن عربياً لتفهم الحوار ستدرك هذا بمجرد النظر، بكادرات شاهين وألوانها الباهتة في البداية، بمشهد "الأب" الذي أدى دوره الفنان حمدي أحمد، حينما يقرر أن ينتحر بإشعال النار في بيته، مشهد الحريق دون كلام.

استخدام الألوان ببراعة وعبقرية في كادر يُظهر البيت نصف مظلم ونصف مضيء، تحت نور الفجر في الحارة يخلق جواً يصل بالإحساس الخاص بالمشهد إلى قلب المتلقّي دون إذن، شاهين مع لوحات المصوّر محسن نصر نجح في استخدام الألوان استخداماً عبقرياً طوال الفيلم، بما في ذلك كادرات مشاهد البطلة "صديقة" والبطل "عوكا" على ظهر المركب في النصف الثاني من الفيلم، الشاشة تتلون بالأحمر والأخضر دون أن تشعر بأي شيء مقحم، وتجد أحاسيس الرغبة والنفور والحب والانتقام تتوالى على قلبك في خلفية نيل مصر وأرضها، ويتم الختام بتغيير لون الكادر إلى صعود الرمادي الباهت في نهاية اليوم السادس ووفاة الطفل، ثم يختتم شاهين بكادر عبقري للوداع بين "صديقة" و"عوكا" في صمت تحت ضوء شمس اليوم السادس.. بعد الطوفان.

أما على مستوى الصوت فقد خلق شاهين من موسيقى عمر خيرت جواً جنائزياً حزيناً يشعرك بالحنين طوال الفيلم، ثم جعل عمر خيرت يثور على نفسه في استعراضات شخصية "عوكا" التي أداها بانطلاق وحرية وبهجة وعبقرية.. الفنان الذي لم نعرفه إلا بعدسة شاهين "محسن محيي الدين".

هنا وخصوصاً في المشهد الذي يحاكي فيه "عوكا" شخصية استعراض الفنان والراقص والمخرج الأميركي "جين كيلي" الذي أهدى له شاهين الفيلم في تترات البداية، العبقرية استمرت في لحن "حدوتة حتتنا" الذي صنعه شاهين ووزّعه خيرت وظل هو الشيء الأكثر ارتباطاً في ذاكرتنا من الفيلم بعد سنين من مشاهدته.

شاهين يصنع كالعادة فيلماً عبقرياً على مستوى السينما المجردة، على مستوى الصورة والصوت وحركة الكاميرا.. على مستوى (التكنيك).
إذا كان شاهين بكل هذه العبقرية، بكل هذه القدرة على خلق الجمال كما تقول.. لماذا لم يفهمه الناس إذن؟
أجد قارئي يرد بهذا السؤال وله فيه كل الحق.

للأمر جانبان كما أرى:
الأول: إن كان للسينما ثلاثة مكونات ستكون "الصورة الصوت الحكاية" وشاهين كان ثائراً على طريقة سرد الحكاية بشكل اعتيادي وبسيط، لم يكن هناك خط متصاعد للحكاية ينعقد ويرضي الجمهور درامياً كما اعتادوا.

نجد هذا واضحاً في معظم أفلام شاهين وإن لم يكن كذلك في اليوم السادس، وكما اعتدنا منه فالحكاية تتشكل بين خيوط عديدة أحياناً متنافره ونقل سريع بين شخصيات صاحبة جمل قصيرة لا يتكون منها في كثير من الأحيان خط لحكاية واضحة، إلى أن ينتهي الفيلم ويستعيد المتفرج كل ما رآه ويعيد تجميعه ويشارك هو الآخر في صُنع الحكاية.
أجد هذا عبقرياً.. أجده ساحراً.. وأجده في صلب جوهر شغفي بالسينما.. كما أردد دوماً "السينما تمنحنا القدرة على معاينة حيوات أخرى لم نِعشها".

شاهين يحقق هذا بامتياز بهذا السرد غير المعتاد. ربما يخالفني في هذا الكثير، وربما يجدونه مزعجاً أو صعباً، ولكنني لا أظن أن هذا الأمر هو ما سبب عدم فهم الجمهور المصري لشاهين، فهؤلاء البشر قد وهبهم الله قدرة على الإحساس بالجمال الذي يلمس قلوبهم حتى لو لم تصِبه عقولهم.
أجد أن هناك أمراً آخر هو السبب وأجد أن هذا الأمر الثاني يتحمله شاهين نفسه.

الثانى: أن شاهين كان للأسف "ليس عقلانياً"، هذا يتجسد جلياً في اليوم السادس.. بدايةً من اختيار الحكاية التي يسردها هنا عن رواية (لاندريه شديد) والتي لم تكن لتصنع فيلماً جيداً لولا عبقرية شاهين وصنعته السينمائية التي تحدثنا عنها قبلاً والتي لو تم استغلالها لسرد حكاية أفضل لخرجنا بفيلم عالمي وهو ما لم يحققه "اليوم السادس"، مروراً بإصراره الدائم على كتابة الحوار الذي لم يجده فخرجت لغته دائماً غريبة عن المتلقي المصري، ويمكن لك أن تتخيل ما كان يمكن أن يتغير لو أن عبقرية شاهين قد تم استغلالها لإيصال حوار مفهوم ومألوف لآذان المصريين، وصولاً إلى تركه لمسؤولية بطولة الفيلم النسائية الكاملة للمطربة الفرنسية "داليدا" التي كان من المفترض أنها فلاحة مصرية، فإذا بها تتحدث بلكنة مكسورة وتتحرك مُتخشبة طوال الفيلم تبكي وتضحك بأمر المخرج دون ذرة من الواقعيه، ويمكنك أن تتخيل ماذا لو كانت سعاد حسني أو مُحسنة توفيق أو فاتن حمامة أو أية سيدة مصرية قد قامت بهذا الدور، في كل الأحوال لم يكن الوضع سيصل للحكايات التي نسمعها عن أن الجمهور في صالة السينما كان يستمر طوال الفيلم في إطلاق النكات والضحكات تندّراً على لكنة "داليدا"!

للإنصاف فإنه يُقال: إن سعاد حسني قد رفضت الدور لأسباب لم يكتب عنها أحد حينها، وللإنصاف أيضاً أنا أحب داليدا التي ظلمها شاهين في هذه الدور وربما تم اختيارها لأسباب إنتاجية، داليدا الفنانة التي هُضم حقها ويكفيك أن تعلم أن هذه الفتاة المصرية المولد وحتى اليوم واحدة من أكبر خمسة فنانين حققوا مبيعات في تاريخ الموسيقى في العالم!

فى النهاية.. تحدثنا عن فيلم أحببته شخصياً لما فيه من جمال صنعة السينما وعن مخرج وفنان عظيم، حينما تم استغلال موهبته كما ينبغي خرجنا بفيلم بقيمة "الأرض" الذي أخرجه شاهين، وكتب له الفنان "حسن فؤاد" السيناريو والحوار عن قصة الكاتب المصري "عبد الرحمن الشرقاوي"، واحتل صدارة أفلام مصر في استفتاءات الجمهور والنقاد في مصر والعالم، وللأسف لم يتكرر هذا كثيراً.

على كل حال وبعيداً عن اليوم السادس.. يبقى من ذاكرتنا لشاهين حكايات مصرية تحكي الكثير، وكادرات سنيمائية جميلة وموسيقى وحياة، حتى لو كان هو السبب في أن أهلنا لم يفهموه إلا قليلاً، ولم يقدّروه حق قدره.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
حسام فهمي
طبيب وكاتب مهتم بالسينما
تحميل المزيد