قالت له أمه “لا أريد رؤية وجهك ثانية”.. قصة صديقي من شوارع المغرب إلى شوارع نيويورك

عدد القراءات
5,286
عربي بوست
تم النشر: 2018/04/16 الساعة 10:44 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/04/16 الساعة 10:44 بتوقيت غرينتش
Young traveller exploring a new travel destination

نزلت من شقتي ووجدته أسفل باب الإقامة ينتظر بسيارته الفاخرة. صعدت، وسألني متفاجئاً: "أين حقيبتك؟"، استغربت وأنا أجيبه: "حقيبتي؟"، فردّ: "ألم نتفق أننا سنذهب إلى نيويورك؟".

تذكرت أنه أخبرني بالأمر لكني نسيت، فخبر مقتل والد وأخ زميل سوري جعلني أتذكر فقط واجب العزاء الذي عليَّ التهيؤ له في اليوم التالي، لكن صديقي وكان أميركياً من أصل مغربي كان مُصرّاً على أن نفِي بالاتفاق ونذهب إلى نيويورك، وقدّم كل الوعود لإرجاعي إلى ولاية فيرجينيا قبل الموعد المفترض لتقديم العزاء لزميلي، وحين وجد منّي إصراراً على الرفض قال لي بوجه حزين:

أرجوكِ، إنه يوم عيد ميلادي وأريد أن أمضيه في نيويورك، إنه أول مكان وطئت فيه قدماي منذ 30 سنة في أميركا، أريدك أن تكوني معي وأنا أحتفل ببلوغي عامي 47، وبإكمالي 30 سنة على قدومي إلى هنا، أعدك أنني سأرجعك ساعة قبل موعد تقديم العزاء.

عيناه اللتان أطلّتا بنظرة فيها الكثير من البراءة محت نظرة رجل الأعمال الثري التي لم تكن تفارقه جعلتني أخفف من إصراري وأوافق على الذهاب إلى نيويورك في تلك الليلة الباردة المظلمة من شهر أبريل/نيسان 2014.

اعتلى الفرح مُحيا صديقي، وانطلق مسرعاً بسيارته الرانغ وهو يكرر وعده بأنه سيرجعني باكراً، كانت أربع ساعات تفصلنا على الوصول إلى نيويورك، وكنت ملتهية في موبايلي حين تحدث فقال:

"كنت صغيراً حين انفصل والدي عن والدتي، كان والدي مهندساً، موظفاً كبيراً في ذاك الوقت، وكانت أمي امرأة بسيطة، تزوج والدي، وتزوجت والدتي، وبقيت أتأرجح بين الاثنين ولم أتذوّق ما يكفي من حنانهما وأنا الطفل الصغير، وحين بلغت 17 من العمر أتاني زوج والدتي بتذكرة ذهاب بدون عودة إلى أميركا، أمدتني والدتي ببعض من المال وقالت لي ما لم أنسَه يوماً: "لا أريد رؤية وجهك هنا مرة أخرى".

وصلت إلى نيويورك، كانت أول مرة أغادر فيه بلدي المغرب، تلقفتني أيدي مهاجر مغربي كان يسترزق من اصطياد القادمين الجدد من مطار نيويورك بإسكانهم في شقته بمقابل مالي، كان الشاب ثلاثينياً وكان يستنزف ما لديّ من نقود قليلة وضعتها والدتي في داخل جيب بالجاكيت وأقفلت عليه بخيط سميك. بدأت نقودي تنقص وكان عليَّ تدبير عمل ولم أكن أعرف كلمة بالإنكليزية.

خرجت ذات يوم وبدأت أجوب شوارع نيويورك باحثاً عن عمل حتى وجدته عند باكستاني يملك حانة، عملت فيها نادلاً، هناك التقيت بمن ستصبح زوجتي الأولى، كانت شابة أميركية من أوروبا الشرقية تكبرني سناً، تزوجتني لتساعدني.

وبالفعل، ساعدتني في الحصول على الإقامة وأوصتني أن أول ما عليَّ فعله هو أن أتعلم اللغة. وسجلتني في معهد للإنكليزية. بعدما بدأت آلف الحياة في نيويورك انفصلنا عن بعض، كان طلاقنا ودياً، كما كان زواجنا. بعهدها، تركت العمل في الحانة، وبدأت أبيع الهوت دوغ، وهذا ما يلجأ إليه كل مهاجر جديد هنا.

كانت العائدات لا بأس بها، لكني إلى الآن أشعر بذاك البرد النيويوركي الشديد الذي كان ينخر عظام رِجلي وأنا أقف ليلاً في السكوير تايم أبيع الهوت دوغ بيدين ترتعشان من البرد.

أربع سنوات قضيتها في نيويورك، ذقت فيها المرار كان يزيد من مرارتها إهمال والدي لي، ووالدتي وهي تقول لي: "لا أريد أن أراك هنا مجدداً".

كانت حياتي صعبة في نيويورك، ذات يوم قررت الرحيل إلى جوار واشنطن العاصمة فأتيت إلى فيرجينيا.

هناك، التقيت بمن أعتبره "عرّابي"، إعلامي أمريكي ساعدني في العمل في مجال أحببته "تقني سمعي بصري"، كنت أدرس وأعمل، وحصلت على شهادات فيه، عملت مع إعلاميين أميركان، ثم أسست شركتي الخاصة وبدأت أشرف على تجهيز الملتقيات والمؤتمرات بما يلزم من كاميرا وميكروفونات وغيرها، تطور عملي، أصبح لديّ زبناء من جهات لها وزنها، أصبحت أشعر أنني قوي، وكان ينقصني أن يكون لي عائلة، عدت إلى المغرب وأحضرت أختي، طلّقت والدتي من زوجها الثاني الذي كانت تعاني معه الأمرّين، فتحت لهما محلاً تجارياً بأفخم مركز في فيرجينيا، واختارت لي أمي زوجة لتكون أماً لأبنائي، لكن علاقتي بوالدي ظلت منقطعة.

أنا الآن وبعد 30 سنة من نفيي في أميركا أشعر أنني حققت ما لم أستطِع أن أحققه في المغرب.

أحب أبنائي حباً شديداً، لكني دوماً أشعر أنني أحتاج للحب، ففي زيجاتي الاثنتين لم أعرف الحب، وما زلت إلى الآن لا أعرفه! أحس بألم شديد من الحرمان منه، وكلما اشتد بي الألم دفنت ألمي في العمل والعمل، هنا الناس ماكينات عمل، والماكينات محرّم عليها الحب!

كنت أتابع حكايته بصمت كبير، كانت قصته مؤلمة جداً وأنا أتخيله صغيراً لوالدين مطلّقين، وأنا أتخيل والدته تخبره ألا يعود إلى الوطن، كانت الدموع تغرق وجنتي وكان الظلام يداريها، وحين تحدثت حاولت أن يبدو صوتي صارماً، قاسياً، غير آبه، كما اعتاد أن يسمعه، واعتاد أن يضحك وهو يراني أحدثه في قسوة فيقول: "قسوتك مزيّفة، أنت أكثر النساء فيمن قابلت جنوناً وطيبة".

في السكوير تايم بنيويورك، وقف يلتقط لي بضع صور، وحين حلّت الثانية عشرة ليلاً، نزعت عنّي القناع، وبابتسامة حشوتها بكل ما أوتيت من حنو قلت له: "هابي بيرث داي"، ابتسم في خجل، وكأنه خجل ذاك المراهق الذي قذف به منذ ثلاثين سنة إلى الأراضي الأميركية، أرض الهاربين بأحلامهم وآلامهم، ابتسم وقال لي:

"أنا مُمتن لكِ، أعرف أنكِ تريدين الرحيل عن هنا والطيران إلى مكان آخر، سأفتقدك بشدة، لكني سأذكر دوماً أن هذا أجمل عيد ميلاد أقضيه؛ لأنكِ كنتِ معي هنا، في المكان الذي جعلني ما هو أنا عليه الآن".

 

معاني

 

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

شامة درشول
مستشارة في تطوير الإعلام
تحميل المزيد