قبل مدة، شاهدتُ برنامجاً وثائقياً يحكي عن شابة أقدمت على تسميم خطيبها السابق وصديقتها المقربة ليلة زفافهما، وضعت بكل برود سُمّاً في إناء الحليب الذي سيقدَّم للعروسين وأجهزت عليهما في أقل من نصف ساعة، لتسلِّم نفسها للشرطة بعدها ويُحكم عليها بالسجن المؤبد.
حين متابعتك للوثائقي لا يمكن أن تمر مرور الكرام على التضحية والصبر والتفاني الذي ميَّز القاتلة تجاه خطيبها السابق الذي كان ابن خالها، وصديقتها المقربة التي تجمعها بها أكثر من 10 سنوات من الصداقة التي لا يُفَلُّ حديدها. قدَّمت لخطيبها كل ما تملك من تركة والديها؛ كي يكمل دراسته ويؤسس مشروعه الناجح، ليرميها بعد ذلك كقشرة موز لم يعد لها نفع ويقرر الارتباط بصديقتها التي كانت تشتغل عندها في محل للملابس التقليدية.
طالب المدعي العام بتطبيق الإعدام في حق القاتلة، التي منعت عائلتها من توكيل محامٍ للدفاع عنها، لتتدخل بنفسها وتخبر المحكمة والحضور بأن الإعدام لا يحرك فيها ساكناً وأنها ماتت يوم غدر بها الشخص الذي قدَّمت كل شيء لأجله.
بين الشفقة التي تشعر بها تجاه شابة، فارغة إلا من الكره والدمار والرغبة في الانتقام، والاشمئزاز الذي تحس به تجاه الخطيب السابق والصديقة اللذين خانا في حياتهما ثقة الشخص الوحيد الذي قدم لهما كل شيء، وبين استنكارك ما قامت به لمّا قضت على حياتهما في لمح البصر- تتقاطر الكثير من الأسئلة، أهمها: هل كان لزاماً عليها أن تقترف كل هذا لترتاح وتشفي غليلها وتصير سعيدة وراضية عن نفسها نسبياً؟
هل كان يشكل ذلك الخطيب كل حياتها؟ ألم تكن لديها حياة أخرى تستحق أن تُعاش بحُلوها ومُرها وفشلها ونجاحها حتى النهاية؟ ألم تكن قادرة على الانبثاق من الحطام والمضي قدماً عِوَض ما اقترفته؟ ما الذي جعلها تضعف وتنهار كلياً بهذه الطريقة، تتنكر لإنسانيتها وتصير فريسة لكرهها ورغبتها في الانتقام بهذه الطريقة؟ لماذا استغلها وتركها كالشجرة الجوفاء لمّا قضى منها وطراً؟
أسئلة ليس من السهل إيجاد جواب مقْنع لها، لكنها تسلط الضوء ربما على الكثير من النقاط المهمة:
ثقافة مجتمع
لا قيمة للفتاة إلا وهي في بيت زوجها، لن أنسى سؤال الجدات والخالات والعمات الدائم في الهاتف بفي التجمعات العائلية وأنا تلميذة لم أبلغ سن الرشد بعدُ: "فرحيني يا بنتي، جاءك عريس؟"، "كفاية مدرسة وكتب"، "أنا لما كنت بعمرك كنت حاملة بولدي البكر".
أشرع في الضحك بعد أن كبحتُه برهةً، وربما أصمت أو أجيب مازحةً: "لم يأتني عريس بعدُ يا خالة.. ادعيلي"، لأسمع إجابتها الحادة: "اضحكي، ولو درستي وصرتي طبيبة ومهندسة مصيرك بيت زوجك يسترك ويحميك من الدنيا..". تمنيت لو سألتني يوماً عن تحصيلي الدراسي وعن أحلامي وطموحاتي، لكنها لم تفعل.
لن أنكر كذلك أننا ما زلنا في مجتمعاتنا العربية شيباً وشباباً، ومهما ادعينا الوعي والتفتح نقلق، وربما نحزن، إن تأخرت صديقة أو قريبة لنا في الزواج، فنسأل دائماً عن الجديد وعن خطيب قريب، ونحاول تدبير لقاءات ليلاقي فلانٌ علانةً لعل قلبيهما يتآلفان ويبنيان عش زوجية في القريب العاجل؛ لكي تسقط صفة العنوسة عن الفتاة خصوصاً، دون أن نعرف أصلاً إن كان الامتناع عن الزواج في تلك المرحلة أو بالمراحل القادمة قراراً شخصياً.
الحياة ليست قالباً له الحجم نفسه يجب على الكل أن يرتديه. الحياة ملابس بمقاسات وألوان وأشكال متعددة، كل منا يجد راحته وضالته في نوع محدد منها.
الحصول على دبلومات وشهادات لا يعني بالضرورة تحقيق الذات، فالكثير منا لا يرى فرقاً كبيراً بين النجاح في الدراسة والحياة المهنية وتحقيق الذات. النجاح المهني لا يكون دائماً مرفوقاً بتحقيق الذات في نظري؛ لأن الكثيرين من حمَلة الدبلومات والشواهد يعجزون عن اتخاذ قرارات بسيطة أو مصيرية في حياتهم، أو ربما يجدون أنفسهم يخسرون الكثير من الفرص؛ لانعدام ثقتهم بأنفسهم وانعدام روح المبادرة والتحدي. كل ما أفلحوا فيه لحد الساعة هو الدراسة فقط، في انتظار تحقيق مستويات أخرى.
لكن، الأحرى بالفتاة خصيصاً ألا تقتصر على الدراسة فحسب؛ بل تحصل من شتى روافد العلم وتكون شخصية فذة فريدة قادرة على تحمُّل المصاعب والمصائب وتستغل الفرص الإيجابية في حياتها وتجعل تحدِّيها الأكبر محاربة الجهل أينما كان؛ لأنها مهندسة الصرح الأكبر الذي يسمى مجتمعاً. فالمرأة الضعيفة الجاهلة بحقوقها وواجباتها، معدومة الشخصية والتي لا تستطيع تجاوز أزمة حلَّت بها- لا يمكن أن نعول عليها لتبني صرحاً مجتمعياً يصمد ما طال الزمن.
الأساس أن تبني كل لبنة في شخصيتها، وتستعد للقادم، سواء أكان زواجاً أو أطفالاً أو عملاً أو نجاحاً مهنياً، علماً أننا لن نعيش كلنا حتى نبلغ التسعين ولن نموت كلنا شباباً، ولن يُكتب لنا كلنا الزواج، ولن يكتب للناس كلهم الإنجاب ولو تزوجوا. صنع القدر لكل منا قالباً على مقاسه.
الحياة ليست رهينة بشخص واحد
كنتُ قد التقيتُ منذ مدة، سيدة في الستين من عمرها، لا يزال الجمال تاركاً آثاره على وجهها رغم تقدُّمها في السن، لكن الحزن كان بادياً على وجهها وكأنه استوطن مقلتيها منذ زمن غابر، كانت تعيش وحيدة في شقة صغيرة بعد وفاة والديها وتعيش على ثمن إيجار شقة أخرى.
بعد مدة، عرفتُ أنها لم تتزوج قَط، ولم تكن ترضى بأي عريس يتقدم لها رغم كثرة العروض، واختارت أن تعيش وحيدة بعدما اكتشفت منذ أربعين سنة أن خطيبها الذي كانت تنتظر الزواج به على أحر من الجمر، تزوج بفتاة قريبة له ولم يُوف بعهده لها.
عاشت المسكينة على الأطلال، وظلت محتفظة بكل تلك الرسائل التي تبادلاها والهدايا والذكريات التي جمعتها في أوائل السبعينيات من القرن الماضي، على أمل أن تستيقظ يوماً على حقيقة أخرى، ربما بنين وبنات منه وبيت تزينه صورة زفافهما الذي صمد قروناً، لكن صخرة الحقيقة لطالما كسرت الكثير من الأحلام. كانت تستيقظ كل يوم على خيبتها وأملها الذي انكسر، هو الذي تزوج وبدأ حياة أخرى دون حتى أن يعطيها تفسيراً لما وقع، دون حتى أن يلتفت!
كنت أودّ أن أعود إلى الماضي وأشاهدها وهي تحارب لكي تتيقن في نهاية المطاف، من أن قيمتها تكمن فيها هي وليست في أي شخص آخر. كنت أودّ أن أشرح لها أن الحياة لم تتوقف في تلك اللحظة وأنها كانت تستحق وما زالت حياة أفضل من تلك التي عاشتها، حياة فيها فشل ونجاح وألوان ومرض وفراق وفرح، فيها الكثير من الأشياء التي تستحق أن نقاتل من أجلها؛ لأننا نأتي إلى الدنيا وحدنا ونرحل وحدنا، ولا نعيش إلا نتيجة لقراراتنا نحن.
كان عليها أن تستيقظ وتزاول الحياة بحُلوها ومُرها؛ لأن الحياة قطار لا ينتظر أحداً؛ فإما أن تتبعه مسرعة وتلحق بالركب، وإما أن تظل حبيسة للأطلال والماضي والوعود الكاذبة التي لن تصير يوماً شيئاً. كنتُ أتمنى أن تستيقظ آنذاك وتدرك أن الحياة ليست رجلاً خان عهداً أعطاه لها منذ عقود؛ بل الحياة أسمى من ذلك بكثير.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.