سؤال أواجهه باستمرار من الطلاب الذين على وشك التخرج، ومثل هذا التساؤل مؤشر على أن الطالب بدأ يفكر في خيارات مستقبله، وهي مسألة جيدة طبعاً.
ولكني أعتقد أن على الطالب أن يبدأ في التفكير في هذا الأمر من السنة الأولى أو الثانية في الجامعة، إن لم يكن من بداية المرحلة الثانوية؛ لكي يبني نفسه ويحضرها لهذا الأمر من وقت مبكر؛ لأن أحد متطلبات الدخول في برامج ماجستير قوية هو الحصول على معدلات مرتفعة في البكالوريوس، وهو الأمر الذي يتطلب اجتهاداً من أول يوم دراسة بالجامعة، وليس فقط قبل التخرج بسنة، بل ويتطلب الاجتهاد من الثانوية؛ لكي تتحقق المعدلات المطلوبة للدخول في التخصصات التي يرغب فيها الطالب.
يواجه المتخرج عدداً من الضغوط النفسية عند تخرجه، فقد تعوّد لحوالي 22 سنة من حياته، على أن يقوم الآخرون بقضاء احتياجاته الشخصية، وتعوّد خلال دراسته بأن يكون في موقف المتلقي الذي لا يملك أي مسؤولية سوى أن يدرس ويقرأ الكتب، وفجأة يجد هذا الطالب نفسه أمام تحوّل جديد في مسار حياته، فعليه بعد تخرجه أن يتحوّل من متلقّ إلى شخص مسؤول عن نفسه، فعليه أن يعمل وينتج، وعليه أن ينشئ أسرة، وعليه وعليه، وكل هذه الأمور تسبب ضغوطاً نفسية عليه؛ لأن الخيارات المتاحة له كثيرة، فهناك الهيئات الحكومية، وهناك ديوان الخدمة المدنية، وهناك الشركات الخاصة، وهناك الاستثمار الشخصي، وهناك الدراسات العليا، وهناك برامج الابتعاث وغيرها وغيرها، فأين يذهب؟ وماذا يفعل؟ هل يبدأ بالماجستير أولاً ثم يبحث عن عمل؟ أم يبدأ العمل ثم يذهب للماجستير؟ وكيف سيصرف على نفسه لو ذهب للماجستير؟ ثم أين سيعمل بعد الماجستير؟ وما هو التخصص الذي يدرسه في الماجستير؟ وماذا وماذا؟… تساؤلات لها مبرراتها، ولكن تختلف طريقة التعامل مع هذه التساؤلات من شخص لآخر.
وسأحاول هنا أن أطرح وجهة نظري في الاختيار الصعب بين العمل وبين الدراسات العليا، مع إيماني بعدم وجود إجابة واحدة لهذا السؤال، فكل شخص له ظروفه وقدراته وإمكاناته، ويملك إجابة خاصة به، فقد يكون من الأفضل لطالب أن يعمل أولاً لعدة سنوات، ثم يبدأ في الدراسات العليا، وقد يكون من الأفضل لآخر أن يبدأ في الدراسات العليا مباشرة.
سبق أن كتب الدكتور باسل السدحان من قسم الهندسة الكهربائية في جامعة الملك سعود في مدوّنته مقالتين طرح فيهما رأيه في هذا الموضوع (هل الماجستير تصلح لي؟)، (هل الدكتواره تصلح لي؟)، وأنصح بقراءة وجهة نظره في الموضوع، إضافة لاستشارة أكبر قدر ممكن ممن مرّوا بنفس التجربة.
مسؤولية الإجابة عن هذا السؤال ملقاة على عاتق كل طالب، فهو الأدرى بظروفه وميوله واحتياجاته، وهو الأدرى بما يريد أن يكون عليه بعد عشر سنوات من الآن، كل ما سأفعله هنا هو سرد لعدد من العوامل التي أرى أنها مؤثرة في اتخاذ القرار؛ لكي يقوم الطالب بإسقاط تلك العوامل على نفسه أثناء عملية اتخاذ القرار.
ما هو الماجستير؟ وما هي الدكتوراه؟
تستغرق برامج الماجستير سنة أو اثنتين بعد البكالوريوس، يتم فيها دراسة مواد ذات محتوى علمي مركز بشكل أكبر من مواد البكالوريوس، وقد يقوم الطالب في نهاية الماجستير بتقديم مشروع بحثي صغير في مجال التخصص.
بمعنى آخر، الماجستير هو دراسة أكاديمية متعمقة في تخصص معين، قد تكون في نفس تخصص البكالوريوس أو تخصصاً مختلفاً. أما الدكتوراه فتستغرق فترة أطول 4 – 6 سنوات، وتتطلب أن يثبت الطالب أن لديه القدرة على القيام ببحوث علمية في مجال التخصص، وبشكل مستقل؛ ليصبح الطالب خبيراً في مجال التخصص، وقادراً على إضافة مادة علمية إليه.
أين تريد أن تكون بعد 10 سنوات من الآن؟
تحديد الأهداف طويلة المدى خطوة أولى وأساسية للنجاح؛ لأن الوصول لما ترغب أن تكون عليه بعد 10 سنوات سيتطلب منك البدء بالعمل من اليوم، كما أن تحديد الأهداف طويلة المدى تساعدك وبشكل كبير على اتخاذ قرار اليوم عندما يكون لديك عدة خيارات متاحة، وأنصح بقراءة مدوّنة سبق أن كتبتها بعنوان: "عملك اليوم يحدد مكانك بعد عشر سنوات".
لماذا تريد الماجستير؟
سؤال ينبغي الإجابة عنه من البداية، فهل تريد الماجستير لأن كل زملائك وأهلك وإخوتك أخذوا ماجستير؟ أم أنك ترغب في الماجستير لأنك تحتاج لأن تتعمق في مجال معين سيساعدك في تحقيق ما تصبو إليه من أهداف؟ لو كانت لديك أهداف أخرى من خلال الماجستير، وهي ليست مرتبطة بالتحصيل العلمي، فقد يكون من المناسب لك أن تفكر في برامج الماجستير السريعة التي لا تستغرق وقتاً أو مجهوداً كبيرين.
الدراسات العليا ليست ضرورية
لم تنتهِ الدنيا عند الدراسات العليا، وقد يبدع الشخص بدون أن يكون لديه ماجستير أو دكتوراه، وذلك من خلال اكتساب خبرة عملية في مجال معين ترفع من أسهمه كثيراً في سوق الوظائف؛ لأن الخبرة العملية مهمة بنفس درجة الخبرة العلمية، وفِرَق العمل الكبيرة تتطلب تواجد صاحب المعرفة، إضافة لتواجد صاحب الخبرة العملية، ويمكنك النظر حولك لتشاهد الكثير من النماذج السعيدة والناجحة، بل وحتى المبدعة في حياتها بدون أن تملك شهادات عليا في مجالات تخصصها.
فكّر في ريادة الأعمال
ريادة الأعمال تعني تحويل الأفكار إلى مشاريع تجارية، وقد أخبرنا رسولنا الكريم بأن تسعة أعشار الرزق في التجارة، ففكر في تحويل أفكارك لمشاريع تجارية، واستغل فرص التمويل الكثيرة في السعودية لمشاريع الريادة؛ حيث توجد مؤسسات ولجان وجهات في كل ركن في السعودية، ترغب في تمويل أصحاب المشاريع الصغيرة؛ لكي يصبحوا هم صانعي الوظائف والفرص للآخرين، بدلاً من أن يبحثوا عن وظائف، وحسب ما أعرف فهناك وكالات باسم حاضنات الأعمال في معظم الجامعات السعودية، كما أن ريادة الأعمال تكاد تكون جزءاً مشتركاً في الغرف التجارية على مستوى المملكة، إضافة للبنوك وغيرها، وكل هذه الجهات تنظم مؤتمرات وندوات ودورات تساعد أصحاب الأفكار على تحويل أفكارهم لمؤسسات تجارية، بل وتقدم الدعم المالي أيضاً لهذه الأفكار.
أي تخصّص ماجستير؟
أعتقد أن تنوّع التخصصات في الماجستير مهم للسوق السعودية؛ لأنني أعتقد أن السوق السعودية تتطلب وجود خبرة علمية، إضافة لخبرات إضافية مثل الإدارة والتسويق، ولهذا أعتقد أن المزج بين الاثنين يُثري الطالب ويرفع من أسهمه في سوق الوظائف، فمثلاً هناك الكثير من المهندسين من حمَلة الماجستير وهناك الكثير من الإداريين من حمَلة الماجستير، ولكن عدد المهندسين المتخصصين في ماجستير الهندسة مع خلفية جيدة في الإدارة قليل، ولهذا أنصح بالبحث عن برامج ماجستير تسمح لطالبها بأخذ مواد إضافية في الإدارة والتسويق.
الخبرة العملية أم الشهادة؟
الدراسة الأكاديمية تعطي صاحبها أدوات متعددة ومتنوعة يحتاج إليها لصقل نفسه في سوق العمل، بمعنى أنها تُهيّئ صاحبها للقدرة على مواكبة الظروف المتغيرة والانتقال من مجال وبيئة عمل لأخرى بسهولة لامتلاكه للأدوات التي تحصل عليها أكاديمياً بينما الخبرة العملية (بدون خلفية أكاديمية) تحتّم على صاحبها البقاء في نفس بيئة العمل، ويصعب على صاحبها الانتقال لمجال عمل أو بيئة عمل مختلفة عما تخصص فيه.
الدراسة الأكاديمية مختلفة عن العمل في الميدان، فالدراسة الأكاديمية توسع مدارك وأفق صاحبها للأفكار المتنوعة في تخصص معين بدون تركيز كبير على التطبيق العملي، بينما التطبيق العملي يركز على تنفيذ الأعمال بدون الخوض في أسباب نجاح أسلوب العمل، وبدون الخوض في التفكير في خيارات أخرى قد تكون أفضل لتطبيق العمل بمعنى أن صاحب الشهادة، وصاحب الخبرة العملية يكملان بعضهما البعض، فقد يكون صاحب الخبرة العملية أكثر إنتاجاً في مجال معين في العمل، وقد يكون صاحب الخبرة العلمية أكثر إنتاجاً في مجالات أخرى في العمل. ومن وجهة نظري الشخصية، أعتقد أن صاحب الخبرة العلمية يملك قدرة على اكتساب الخبرة العملية من خلال الممارسة والعمل (لو رغب هو بذلك طبعاً)، بينما يصعب على صاحب الخبرة العملية تحصيل الجانب العلمي المرتبط بعمله بدون تفرغ تام لهذا الأمر.
الدمج بين الخبرة العملية والعملية
الدمج بين الخبرة العملية والعلمية مسألة غاية في الإيجابية؛ لأنها تكسب صاحبها مقدرة على التفكير التطبيقي للأفكار النظرية مما يتيح له فرصة الإبداع في مجال عمله بشكل أكبر من الآخرين، فهو يعرف نظريات تنفيذ العمل ويعرف أيضاً الخطوات العملية التي يلزم تطبيقها لاستخدام النظرية. والأشخاص الذين يملكون الخبرة العلمية والعملية قليلون، ويعدون عملات نادرة في مختلفة التخصصات.
العمل لعدة سنوات يمكن صاحبه من البدء في مشوار حياته ودخول السلم الوظيفي والترقيات لشركة معينة والبدء بتحقيق الاستقلال المالي الشخصي، بدلاً من الانتظار لعدة سنوات للانتهاء من الشهادة وبعدها بدء مشوار السلم الوظيفي من البداية، ولكن من ناحية أخرى قد يصعب التفرغ من أجل الماجستير بعد البدء في المشوار الوظيفي بسبب عدم موافقة الشركة للتفرغ اللازم للدراسة أو بسبب المشاغل العائلية والأولاد وصعوبة التخلّي عن مصدر الرزق والمخاطرة للعودة لمقاعد الدراسة، ومن ثم البحث عن وظائف جديدة بعد التخرج.
كلما زادت فترة انتظارك بعد البكالوريوس زادت صعوبة العودة للماجستير، فالمسؤوليات تزداد مع الأيام، فقد تتزوج ويزداد عدد الأطفال وقد تفقد الكثير من مهاراتك الدراسية، ولهذا فقد يكون من المناسب ألا تزيد فترة العمل عن سنتين أو ثلاث.
من ناحية أخرى، قد يفقدك الانتظار الطويل بعد البكالوريوس فرص الابتعاث المتوفرة في الوقت الحالي، ولذا فإن كنت عازماً على الماجستير، وتوفرت فرصة ابتعاث الآن فيمكنك أخذها مباشرة ثم محاولة تحصيل الخبرة العلمية من خلال العمل خلال فترة الصيف أثناء الدراسة.
إن كنت ممن يحددون أهدافهم مبكراً وعازماً على الماجستير، فقد يكون من المناسب أن توضح رغبتك للشركة التي تعمل فيها من البداية بحيث تمنحك الشركة إجازة بدون مرتب، أو ربما منحة دراسة أو حتى تحدد لك جهات تعليمية تتناسب برامجها الدراسية مع مجال عمل الشركة، مما يتيح لك فرصة تطوير نفسك في نفس مجال عمل الشركة.
أعرف أنني لم أجب على التساؤل الرئيسي في عنوان الموضوع، وقد يشعر البعض بأن الموضوع تعقد بالنسبة له بشكل أكبر؛ لأنها قد تكون أول مرة يشعر فيها أنه مسؤول عن اتخاذ قراره بنفسه، بدلاً من أن يوكل غيره في اتخاذ القرار ليُحمّل الآخرين مسؤولية فشله -لا سمح الله- ولكني أعتقد أن مستقبل كل واحد منا يستحق أن نجلس مع أنفسنا جلسة تفكير وتأمّل، نقوم من خلالها بوزن الأمور واستشارة ذوي الخبرة وكتابة الخيارات المتاحة أمامنا، وإيجابيات وسلبيات كل خيار، والاستخارة والتوكل على الله، واتخاذ قرار معين، ومن ثَم تأتي الخطوة الأهم، وهي اتخاذ الوسائل والطرق اللازمة لتطبيق هذا القرار والسعي فيه.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.