كذبة أبريل ونشوة الاشتغالة

عدد القراءات
1,191
عربي بوست
تم النشر: 2018/04/12 الساعة 15:46 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/04/12 الساعة 15:52 بتوقيت غرينتش

"أبريل، شهر الغُبَار والأكاذيب"، جُملة افتتاحية يصعب نسيانها، تبدأ بها رواية "ثرثرة فوق النيل" لنجيب محفوظ. وهي مثل سهمٍ سريعٍ نافذ إلى قلب هذا العمل، بأحداثه القليلة وحواراته العبثية الممتدة وأماكنه المحدودة والمغلقة غالبًا، وجميع شخصياته الملفّعة بدخان الحشيش وضباب الرؤية المشوشة، والرغبة في التناسي المتعمّد لكل شيء عدا سُلطان المزاج والشهوة السهلة، وبالطبع قبل هذا كله وبعده الضحك المتواصل والتنكيت الذكي والسخرية من كل شيء قد يبدو له قيمة عند الآخرين، الضحك بوصفه رد الفعل المنطقي الوحيد على كل ما يتسم به الواقع المحيط من عبث وإجرام وثقل ظل وانقلاب موازين.

إذا ما أسقطنا ضوء الرواية على لحظتنا هذه، قد نكتشف أن شخصياتها لا تقتصر على حفنة المثقفين الغائبين في دنياهم الخاصة والمعزولين عن الناس، بل كأن الوباء تفشى حتّى طالَ جميع أطياف المجتمع بدرجاتٍ متفاوتة، حتّى لو اتخذ الانسطال شكل شاشة تليفزيون بدلًا من جوزة الحشيش، وحتّى لو صارت النكتة الذكية لمثقف ملم بالعقائد والفلسفات الكبرى إلى إدمان المقالب والاشتغالات والسخرية من الآخرين إلى حدّ ترويعهم وإذلالهم أحيانًا. ما يُعرَف في عالمنا العَربي بكذبة أبريل يُسمى في الإنجليزية والثقافات الغربية يوم الحمقى والمغفلين وأحيانًا يوم جميع الحمقى، وهناك تفسيرات كثيرة لتلك المناسبة غير المعتادة التي يتسابق فيها الناس إلى نشر أكاذيب بيضاء أو تدبير مقالب بريئة، منها ما يربطه بأنه كان أوّل أيام العام في بعض التقويمات العتيقة في مناطق أوروبية، لكنه تغيّر بعد ذلك إلى الأوّل من يناير، غير أن بعض الأشخاص التقليديين أو السذّج لم يقتنعوا بذلك التغيير، أو ربما لم يسمعوا به من الأساس، وظلّوا على احتفالهم القديم ببداية العام في مطلع أبريل، فصار الخبثاء من معارفهم يجارونهم ويخدعونهم ويرسلونهم في مشاوير وهمية ويدفعونهم لتصديق أشياء عبثية لا تصدّق، وهكذا وُلد التقليد الظريف – رغم أن هذا التفسير غير موثق أو معتمد تاريخيًا – وصار يومًا للحمقى والمغفلين في جميع أنحاء أوروبا.

وفي الأوّل من أبريل/نيسان عام 1983 ظهر تفسيرٌ آخر على يد أستاذ التاريخ في جامعة بوسطن، جوزيف بوسكين، يقول إن ذلك اليوم يرجع إلى فترة حكم الإمبراطور الروماني قُسطنطين، حينما أقنعه بعض مهرجي البلاط بقدرتهم على إدارة أمور البلاد، فسمحَ له بتولي هذه المهمة يومًا واحدًا فقط من كل عام، هو واحد أبريل طبعًا، ونشر هؤلاء المهرجين الدعوة لجميع الرعية لانطلاق العبث والتهريج لأبعد حدود في ذلك اليوم. أضافَ البروفيسور أن عمل المهرجين والبهاليل كان أمرًا في غاية الجدية في ذلك الحين وكانوا يعتبرون من حكماء البلاط، ويُنتظر منهم وضع الأمور في نصابها الصحيح عبرَ النكتة اللاذعة والسخرية المريرة ولو من أرفع المناصب وصولًا إلى الإمبراطور نفسه. انتشر هذا التفسير وتداولته صحفٌ عديدة في ذلك اليوم، وما كاد البعض يعتمده ويصدّقه حتّى تبيّن لهم أنهم وقعوا ضحايا مزحة أبريل قام بها عالم التاريخ الجليل.

بصرف النظر عن الأصول التاريخية لنشأة ذلك اليوم وتلك العادة، فالمهم أن الباب قد فُتحَ رسميًا لفنٍ جديد طالما مارسه البشر ضد بعضهم بعضًا دون تصريح مزاولة للمهنة، وهو شيء آخر غير الكوميديا وفنون الدراما وكل أنواع الكذب الفني الأخرى المحببة، إنه أقرب إلى الاحتيال والنصب ولكن دون تكسّب مالي من أي نوع أو منفعة مادية واضحة. إنه الاحتيال للمتعة؛ شيء مثل ممارسة الفن للفن، مُتعة الإيقاع بضحايا سُذج يصدقون لُعبة مرسومة ومدبرة خصيصًا من أجلهم.

ثم دخلنا عصر التليفزيون واكتشف منتجو برامجه ذات مرة أن جميع الناس في جميع الأماكن العامة قد يصلحون ضحايا مُمكنين لأنواع مختلفة من تلك المقالب، وظلّت فترة الكاميرا الخفية الأجنبية من الفقرات الثابتة في برامج المنوّعات الغربية في طفولتنا، بخدعها الخفيفة الطريفة، والتي سرعان ما تبناها التليفزيون المصري، على يد إسماعيل يسري وتقديم فؤاد المهندس، وما هي إلّا سنوات قليلة حتى انفتحت جميع البوّابات على البحري، ودخل إبراهيم نصر بكل ثقله، وآخرون أقل وطأة منه مثل برنامج (إديني عقلك)، ثم تطوّر الأمر حتى طالَت الاشتغالات نجوم الفن والمجتمع في برامج عديدة ربما بدأها حسين الإمام، وتحوّلت المقالب من مواقف بسيطة وضاحكة إلى حبكات معقدة ومدروسة، يكرّس لإنتاجها فريق يكفي لإنتاج فيلم سينمائي وبميزانيات خرافية، ثم وصلنا إلى الجحيم الحقيقي مع آخر العنقود رامز جلال، الذي تحوّل المقلب في برامجه – سواء كان بالاتفاق مع الضيف، الضحية أم لا – إلى كابوس حقيقي، تتراوح فظائعه ما بين انقلاب طائرة والإحراق بالنيران وأشياء (ظريفة) من هذا القبيل، مع حرص الممثل (الظريف أيضًا) على السخرية من ضيفه وامتهانه إلى أقصى حد ممكن، والعجيب أن برامجه اتخذت نموذجًا لبرامج استعانت في إرهابها للضيف بحيوانات غابات إفريقيا أو بزلزال متوّهم. وقد نَشهد في السنوات القادمة – إذا نُفدت جميع الحيل والوسائل – اختطاف أطفال وطلب فدية، تقطيع أعضاء، وتفجير سيارات.

وهكذا صارت ممارسات الأوّل من أبريل متاحة على شاشات التليفزيون طوال العام، واحتمالًا بالترويع في الشوارع والأماكن العامة، وفخًا مخفيًا لا يعرفُ أحدنا متى وأين قد يسقط فيه. وفي نهاية المطاف ظهر برنامجٌ جديد، على مستوى عربي، يمثّل فيه ممثلون مغمورون موقفًا إنسانيًا مؤثرًا لرصد ردود أفعال الناس عليه، واسمه "الصدمة" بكل تأكيد، ومن المثير للاهتمام تأمل الأغراض النبيلة والسامية وراء تلك الاشتغالات التي دفعت بالكثير من الناس للبكاء والانهيار والتعدّي بالضرب على بعض ممثلي الموقف. هل يمكن أن تحتّل إحدى الدول دولة أخرى ذات يوم على سبيل الدُعابة، أو في إطار برنامج من برامج الواقع؟ هل يمكن قبول تفجير مبنى أو عبوة ناسفة في مكان عام من باب رصد ردود أفعال الناس؟ مَن الذي يقدّر عندئذٍ حجم الضرر الناجم عن المقلب، ويحدد ذلك الخيط الفاصل بين المزاح وإنزال أذى حقيقي بالآخرين، ماديًا كان أو معنويًا؟ الأغلب أن أسئلة من هذا النوع لن تشغل بال منتجي ومُنفذي تلك البرامج، ولا يهمهم إلّا ضمان الإعلانات التجارية وجذب المشاهدين، وهُنا نصل لضلع أساسي من أضلاع اللعبة؛ الجمهور الذي يجلس في أمان بيته مُتابعًا الكابوس الصغير، وهو الذي ساهمَ في انتشار تلك البرامج الرمضانية بمتابعته وإقباله، لا سيما الأطفال وصغار السن، إذ داعبت فيهم تلك اللذة الخبيثة في اللعب بالآخرين، في الانتقاص منهم وإرسالهم إلى مشاوير زائفة كما كان يحدث مع سُذَّج القرون الوسطى.

كأننا نتغافل عن كل تهديدات ومخاوف حياتنا التي لا تحصى إلى الفُرجة على فزع الآخرين من مخاوف غير حقيقية، فالجمهور على عكس الضحية المفترضة يعلم تمامًا أن الانفراجة آتية بكل تأكيد، قبل نهاية العرض، مع ابتسامة اكتشاف الحقيقة وانكشاف اللعبة والوهم. وربما نستمتع بتخيّل حياتنا بكاملها وقد تحوّلت إلى مقلب ظريف، لا ندري مَن دبّره لنا، نلعبُ فيه دور الضحية الساذجة برضائنا وقبولنا، ما دامت الضحكة مضمونة في نهاية العرض، ولبضع دقائق قد نتماهى مع الجلّاد نفسه مستمتعين بإذلال وإفزاع شخصٍ ما – ولو كانت كلها تمثيلية مُتفق عليها – مستسلمين أمام الأكل والشراب والشاشات للذة الخداع وشهوة القنص، متناسين الاشتغالة الكبيرة التي تُسمّى الحياة ونضطر للتعامل معها بمنتهى الجدية كل يوم، فنخفي ملامحَ الذعر التي تشوّه وجوهنا وراء أقنعة الضحك الدموي.

المنصة

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
محمد عبدالنبي
مؤلف رواية في غرفة العنكبوت
تحميل المزيد